حسن حنفي

انتشرت في بعض وسائل الإعلام العربية والأجنبية فتوى quot;مضاجعة الوداعquot;، وهي الفتوى التي تجيز للزوج مضاجعة زوجته المتوفاة في أول ست ساعات من الوفاة لوداعها قبل مواراتها التراب. ولا يهم من أصدرها، عالم أم جاهل، فقيه أم مدعي شهرة، في مصر أو خارج مصر. فالفقه يتجاوز القُطرية إلى العقلية، والجغرافيا إلى التاريخ.

وهي فتوى يمجها الذوق وتأباها الفطرة، وتبعث على الاشمئزاز والنفور. تقوم على تصور جنسي للعالم، أن الزوجة مجرد أنثى، وأن الزوج مجرد ذكر. فالحب بين الرجل والمرأة هو الجنس وليس المودة والرحمة )وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً(. والجنس ليس تعبيراً عن الحياة بل هو أيضاً حق الأحياء في الأموات. فالمرأة جسد، حياً كان أم ميتاً. وكما أن للزوج حقاً في الجسد الحي متى شاء فإن له نفس الحق في الجسد الميت. فالحق غير مشروط بالحياة. هو حق مطلق لطرف على طرف بصرف النظر عن الطرف الثاني الذي عليه الواجب. طرف له حق بلا واجب، وهو الرجل. وطرف عليه واجب دون حق، وهي المرأة. وماذا لو توفيت الزوجة في حريق وأصبح جسدها مفحما؟ وماذا لو غرقت في قاع البحر؟ وهل الرجل مجرد من المشاعر والأحاسيس، يحتاج إلى أي شيء، حي أو ميت، يفرغ فيه رغبته الجنسية؟ وماذا عن حرمة الموتى؟ إن أكثر الفلسفات الوجودية إغراقاً في الجسد وأنه وسيلة للإدراك الحسي، والحركة، والتوجه في العالم، والاتصال الجنسي، والصراع، تتحدث عن الجسد الحي وليس عن الجسد الميت. فالجسد الميت شيء، والإنسان ليس شيئاً.

وهل الحب هو الجنس؟ وهل الجنس من طرف واحد، إيجابي والآخر سلبي؟ وماذا عن حق الزوجة في جسد زوجها المتوفى؟ أم أن المرأة أكثر إنسانية، وأن الحب بالنسبة لها هو العشرة والألفة والحياة المشتركة؟ أم أنها الثقافة الذكورية التي تقوم على حق الرجل وواجب المرأة وعدم التساوي في الحقوق والواجبات؟

وماذا عن الأهل والأقارب الذين يحيطون بجسد المتوفى المغطى بالملاءة وهم ينتحبون؟

إن للموت جلاله، وللجسد حرمته. وإكرام الميت دفنه. ويتطلب ذلك الغسل والكفن والدفن والعزاء، ويُتلى القرآن الكريم وتطلق الدعوات بالرحمة على المتوفى. وتوزع القهوة السادة على الحاضرين وليس العصائر والمشروبات في جلسات الفرح بين الندماء. فهل ذلك الكلام وارد في مثل هذا الجو؟

ولا يكون وداع رفيق الحياة إلا بالحنين وجميل الذكريات، وتخصيص صدقة جارية له، عمل خيري يفيد الفقراء، مستوصف أو مدرسة أو دار للأيتام أو وديعة باسمه يصرف عائدها على أفعال الخير. ويكون الوداع بطمأنة رفيقة الحياة قبل مغادرة هذا العالم على رعاية الأولاد الصغار، وحسن معاملة الكبار، والإخلاص للذكرى. ففي حالة الحب، غياب الحبيب حضور. وفي حالة الكراهية حضوره غياب. والذكرى العطرة أقوى من الجسد الميت. واستدعاء الذكريات في شريط الحياة السابقة أقوى من اللحظة الحاضرة، ورفيقة الحياة مسجاة، جثة هامدة بلا حراك. الماضي أقوى من الحاضر والحياة أقوى من الموت.

إن أي اجتهاد لاستنباط حكم شرعي جديد إنما يقوم على التعليل، فالقياس هو تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع لتشابه بينهما في العلة. ولا يوجد أصل يُقاس عليه في الكتاب أو السنة الصحيحة. ولا يوجد فرع يتطلب حكماً لأن المسألة لم يطرحها أحد. ولا تعم بها البلوى. ولا توجد علة تجمع بين الأصل والفرع، فما أبعد الحياة عن الموت. ومن ثم لا يوجد حكم يمكن استنباطه إلا التطوع المجاني بغية الشهرة والإعلام لكل ما هو غريب ومستقبح.

كأن بعض الفقهاء لم يجدوا فتاوى إلا فعلاً كهذا، وإرضاع الكبير، والجزية، والإماء، والسبايا، والرق، وبعض فتاوى الحدود المثيرة من أجل الشهرة الإعلامية، وما هو مقدار قطع اليد: الرسغ أو المرفق أو الذراع كله؟ وما حد قطع الرقبة تحت الذقن أم فوق الكتفين؟ وكم حجارة تلقى للرجم؟ وهل الجلد علني في ميدان عام حتى يكون عبرة أم هو سري في مكان مغلق فتنتفي العبرة؟. وكل ذلك إثارة للضجيج من مشايخ مغمورين لم يسمع أحد منهم فتوى في القهر أو الفقر أو الظلم أو البطالة أو المرض أو الإيواء. كلها فتاوى تحيط بها الغرابة لتشغل الناس وتبعدهم عن مصالحهم وعن حياتهم اليومية ومشاكلهم الواقعية. تضر أكثر مما تنفع، وتدعو إلى الفرقة بين أبناء الوطن الواحد مثل استعمال مصطلحات أهل الذمة وأهل الكتاب دون المواطنة، وهي مفاهيم وإن صحت تاريخياً إلا أن الزمن قد تجاوزها بمفاهيم أخرى لا تقل شرعية عنها. فالكل بنو آدم، وآدم من تراب. هي مفاهيم تسبب العنف الداخلي. ويستعملها الإعلام الخارجي للتشهير بالإسلام بعد أن استعمل مفاهيم العنف والإرهاب في العقد الأخير. وما زال يستعمل مفاهيم التخلف وانتهاك حقوق الإنسان عامة وحقوق المرأة خاصة، حية أو ميتة.

إن الكرة في ملعبنا، نحن العلماء، تركنا الكتب القديمة مصدراً من مصادر الأحكام الفقهية دون تجديدها وإعادة النظر فيها تاريخياً، واستبعاد ما تجاوزه الزمن وإضافة الموضوعات العصرية. فما زالت هناك أبواب في المدونات القديمة عن الرق والإماء والسبايا والغنائم. وهي موضوعات تجاوزها الزمن بإلغاء الرق وإخضاع أسرى الحروب للاتفاقات الدولية. وهي موضوعات لم يرد ذكرها في القرآن الكريم، المصدر الأول للتشريع. وروايات السنة فيها تختلف درجات صحتها. اختلف حولها العلماء القدماء، وضعّفوا بعض رواياتها، وقابلوها بروايات أخرى معارضة أكثر صحة. تتفق مع العقل البديهي والذوق الفطري. ما زلنا في حاجة إلى نظام للأولويات عندما نتناول الفقه القديم، هل موضوعات العلاقات بين الرجل والمرأة ومنها إرضاع الكبير ومضاجعة الوداع لها أولوية على الفقر والقهر؟ وأوطاننا مهددة بالتجزئة والتفتيت إلى كيانات طائفية عرقية. وقد حدث ذلك بالفعل في العراق والسودان والصومال. ويخشى أن تكون الدائرة قادمة على لبنان وسوريا وبعض بلدان المغرب العربي بل ومصر. فتصبح إسرائيل أكبر دولة طائفية عرقية في المنطقة، دولة يهودية، تأخذ شرعيتها من طبيعة النظم السياسية الموجودة في المنطقة. أليست إسرائيل ما زالت محتلة لثلاثة أرباع فلسطين والجولان وجنوب لبنان، وتبتلع الآن ما تبقى من فلسطين بالاستيطان؟ وماذا عن تنمية الموارد، وما زلنا نستورد معظم ما نحتاج من الخارج، ولدينا الأرض والمياه والمواد الأولية والسواعد والعقول؟ هل حققنا مقاصد الشريعة الخمسة: الحياة، وآلاف الأطفال في السودان والصومال ومالي يموتون جوعاً يومياً؟ والعقل، ونصف الأمة أمية؟ والدين، أي المصالح العامة؟ والعرض، أي الكرامة للفرد والوطن؟ والمال، أي الثروة الوطنية؟ نشوه ثقافتنا بأيدي بعض جهّالنا فيضطر العلماء للدفاع عنها.