عبد الوهاب بدرخان

ما دام الأمر بلغ حد المشادة بين رئيس الوزراء الإسرائيلي وسفير الولايات المتحدة في إسرائيل، وفي حضور أحد أعضاء الكونجرس، فهذا يعني أن بنيامين نتنياهو خرج عن طور السياسة وعن طور الدبلوماسية ليصبح أسير انفعالاته، وفي الأعراف الغربية لا يمكن الوثوق بمثل هذا الشخص، إذا كان في يده اتخاذ قرار يتعلق بالحرب، إنه يواجه حالياً المآخذ نفسها التي وجهت في أمريكا للرئيس السابق جورج دبليو بوش، مع فارق أن نتنياهو ليس رئيس دولة عظمى مهما بلغ تأثيره في توجيه السياسة الأمريكية.

في الكواليس ما هو أكثر عمقاً من المشادة، هناك صراع إرادات، والمفارقة أن الأمريكيين والإسرائيليين، عسكريين وسياسيين، يؤكدون اتفاقهم على الهدف حيال إيران وبرنامجها النووي، فإذا كان هناك اتفاق، لماذا إذن هذا المناخ المتوتر المحموم؟ إنه مرتبط تحديداً بأن نتنياهو مصر، مع ايهود باراك وزير الدفاع، على quot;تطويعquot; باراك أوباما في مسألة إيران، بعدما تمكن من تطويعه فيما يتعلق بشروط التفاوض مع الفلسطينيين، لكن حتى في هذا الملف يعتبر زعيم الليكود أن المطلوب من الرئيس الأمريكي أن يضغط على الفلسطينيين ويفرض عليهم التفاوض وفقاً للشروط الإسرائيلية، لا أن يبتعد عن الملف ويترك الإسرائيليين عرضة للانتقادات حول العالم بسبب عرقلتهم باستمرارهم في سياسة الاستيطان.

وبالنسبة لرئيس الوزراء الإسرائيلي فإن أوباما لا يبدي أي جدية في مواجهة quot;الخطر الإيراني على إسرائيلquot; ولذلك فقد سعى إلى استخدام الموسم الانتخابي لابتزازه، سواء باستقبال حافل لمنافسة الجمهوري ميت رومني، أو باستخراج تعهد منه يحدد فيه مهلة وخطاً أحمر لا تعود الأولوية بعدهما لحل دبلوماسي مع إيران، بل للحل العسكري، أما بالنسبة لأوباما فإن المسألة لا تتعلق برغبات إسرائيل وإنما أولاً بالمصالح الأمريكية، ثم بمصالح حلفاء أمريكا في الخليج وأوروبا، ثم بـquot;أمن إسرائيلquot; الذي تتعهده الولايات المتحدة كاستراتيجية ثابتة أكدها الرئيس الحالي أسوة بجميع الرؤساء الذين سبقوه.

بناء على ذلك، لا يمكن لأوباما اعتبار خيار الحرب على إيران قراراً ذاتياً، وإنما يجب أن تؤخذ فيه معطيات كثيرة في الاعتبار، إنه قرار تقاسم في بلورته مختلف مؤسسات الحكم، وبالأخص الأجهزة الأمنية.

وهذه المؤسسات ترفض جميعاً هذا الخيار الآن، ويعرف الإسرائيليون جيداً كيف يُصنع القرار الأمريكي، ولعلهم متوترون لأنهم لم يتمكنوا من اختراقه وجرّه إلى خياراتهم، وهذه من المرات النادرة التي يقف فيها الحليفان على طرفي نقيض، رغم اتفاقهما على الأهداف.

وفي مثل هذه الحال، لابد للحليف الصغير أن يرضخ لإرادة الكبير، لا أن يواصل نهره وتحديه والتسبب بخسائر له، وقد سبق لأوباما أن نبه الإسرائيليين، في خطاب أمام منظمة اللوبي اليهودي (إيباك) إلى أن ورقة الحرب التي يرفعونها من وقت لآخر أدت إلى اضطراب في أسعار النفط انعكس على جميع الحلفاء الغربيين الذين تمر بلدانهم بأزمات مالية واقتصادية.

لكن الأمر الآخر الذي جعل نتنياهو يخرج عن طوره أنه لم يجد سبيلاً لابتزاز أوباما باجتذاب اليهود الأمريكيين، إذ أن غالبيتهم تؤيد الحزب الديمقراطي لسياساته الداخلية، ولم تر منه بالنسبة لإسرائيل ما يهز ثقتها به، إذن، هذه ورقة أخرى لا يملك نتنياهو إمكان تحريكها أو تجبيرها لهذا المرشح أو ذاك، وبالتالي فإن أوباما لن يكون مديناً له في حال نجاحه المحتمل بولاية ثانية في البيت الأبيض، وقد أخذ الناخبون اليهود علماً بالمساعدات المالية والعسكرية التي أغدقها أوباما على إسرائيل دفعاً لضغوطها من أجل شن حرب على إيران، أي أنه خضع للابتزاز لكن من دون الرضوخ لما تريده اسرائيل.

وفي أي حال، فإن الأمريكيين يعرفون أكثر من سواهم، ماذا يعني الصراخ الإسرائيلي الذي يحذر من quot;الخطر الإيرانيquot;، ولم يخف العسكريون الأمريكيون، الذين يترددون على إسرائيل بوتيرة شبه أسبوعية، أنهم لا يعتقدون بوجود خطر داهم، ولذلك يعتبرون أن الأمر لا يعدو كونه صراخا سياسيا لا يستطيعون معالجته، أما نظراؤهم العسكريون الإسرائيليون فعبروا عن مخاوف وتحدثوا عن خطط جاهزة وتحضيرات حثيثة لمواجهتها، لكنهم بدورهم لم يؤكدوا أن الوضع يتطلب تدخلا عسكريا سريعا، ونظراً إلى أن منطلقات التفاهم بين العسكريين تختلف عنها بين السياسيين، فإن الجنرالات الإسرائيليين لم يتأخروا في إبداء اعتراضهم على طبول الحرب التي تقرعها حكومتهم.

وهكذا، أخيراً، إلى المشادة مع السفير الأمريكي، وجد نتنياهو نفسه في وضع قد يضطره إلى إخضاع أعضاء quot;مجلس الوزراء الأمنيquot;، لأجهزة كشف الكذب التي تستخدم مع المجرمين.

ورد عليه شاؤول موفاز زعيم حزب quot;كاديماquot; بأنه هو (أي نتنياهو) من يجب إخضاعه لهذه الأجهزة، لم يسبق أن بلغ المستوى السياسي في إسرائيل هذا المستوى من التخبط والتعارض، بل لم يسبق أن انقسمت أي حكومة إلى هذا الحد في نقاشها لقرار حرب، ولعل أعضاء quot;مجلس الوزراء الأمنيquot; وجدوا أن النقاش لم يعد يتسم بـquot;الديمقراطيةquot; ما دفع بعضهم إلى تعمد تسريب ما يقال في الاجتماعات بغية إقحام الرأي العام كي يضغط على quot;الصقورquot;، خصوصاً أن استطلاعات الرأي أظهرت معارضة واضحة لفكرة الحرب.

لا شك أن هذه المعارضة من جانب جنرالات الجيش وكذلك من الرأي العام، تستند أساساً إلى استحالة الحرب من دون مشاركة الولايات المتحدة فيها، بل من دون قيادتها وتورطها الكامل فيها، وبالتالي فإن نتنياهو يجد سبباً آخر للحنق على أوباما الذي حتى من دون أن يقصد، أحدث شرخاً داخل حكومته وأجهزته فضلاً عن الرأي العام الإسرائيلي، ولذلك فعلى نتنياهو أن يقتنع بما حققه حتى الآن في زرع فكرة الحرب، لأن المزيد من الإلحاح والضغط لابد أن يرتد عليه.