عاطف دلالي
توسّمنا نحن التونسيين خيرا بعد انتخابات 23 تشرين الاول (أكتوبر) للقطع نهائيا مع الماضي، ومحاولة بناء الدولة الحديثة ولملمة جراح الوطن.. حلُمنا وأمِلنا لكن لا تجري الرياح بما تشتهي السفن.
أليس لي الحق أن أحلم ولو كتابة بعد أن استنفدت جميع أحلامي على أرض الواقع وذهبت مع أوائل رياح الخريف بعد أن لفحتها شمس الصيف الحارقة وهي واقفة على أعتاب الوطن؟
لكن الذي حصل أنه بعد إعلان نتيجة الانتخابات مباشرة دخلت الأحزاب الفائزة في مفاوضات لتشكيل الحكومة الثورية، وما ساد خلال تلك المفاوضات (وقد بدأت تتكشّف تفاصيلها وخباياها) من محاولة استئثار حركة النهضة الإخوانية، أو 'الخوانجية' باللهجة العامية التونسية، محاولة استئثارها بالسلطة أثار موجة احتجاج وعدم رضا كبيرين في قواعد المؤتمر من أجل الجمهورية، بالأخص ثاني أكبر الأحزاب الفائزة، صحبتها موجة استقالات جماعية رافضين لتلك السياسة الاستئثارية الأنانية الحزبية الضيقة، مستهجنين التنازلات المهينة التي قدمتها قيادات حزبهم. رغم كل ذلك بقي الأمل يحدو شريحة مهمة من التونسيين برؤية تغيير ملموس وجدية عملية في محاربة الفاسدين ومحاسبتهم مهما علا شأنهم، تلك المحاسبة التي تركها الشعب (المسالم) لتقوم بها نخبته الحاكمة، فلم يُقم محاكم ثورية ولا نصب المشانق في الشوارع لأن هذا من صميم اختصاص مؤسسات الدولة، فما كان من الذين مسكوا بالسلطة (الشرعية) إلاّ أن وضعوا ملفات الفساد تلك على الرفوف الخلفية ليقع استغلالها مستقبلا (كما سنأتي على ذلك لاحقا) لتحقيق مكاسب شخصية وحزبية ضيقة ولامتصاص بعضٍ من الضغط.
ومن بين تلك الملفات المسكوت عنها ملفات جوهرية يمكن ذكرها لا حصرها:
' المؤسسة العسكرية: لا أحد في تونس 'الثورة' بحكومتها ومعارضتها تجرّأ على النبش في هذا الملف أو التعرض لهذه المؤسسة التي وإن كان أفرادها مشهودا لهم بالوطنية ولكن بدون تقديس ولا تنزيه، ومنها ما يُقال عن الموقف البطولي برفض أوامر المخلوع بإطلاق الرصاص على الشعب وتذكرينا به ليل نهار! لكن نحن نرى أن ما قام به الجيش ليس فضلا ولا منّة علينا بل هو واجب. بقيت عدّة تساؤلات محرّمة ومنها ما هو دور الجيش أيام الاضطرابات بالضبط؟ وهل هناك فعلا صفقة في الخفاء حيكت؟ وما حقيقة القناصة؟ والمحاكمات العسكرية العقيمة؟ وما إحالة المستشار السابق لرئيس الجمهورية المنصف المرزوقي على القضاء العسكري على خلفية انتقاده للمؤسسة العسكرية إلا تعميق لهذه الهواجس ومدعاة للإصرار على الحصول على إجابات لتلك التساؤلات..
' القضاء: لا توجد رغبة حقيقية في إصلاح المنظومة القضائية لتكون بحق مستقلة عن السلطة التنفيذية، فيضرب بها كل المعارضين بـ'القانون'، وما عزل 82 قاضيا إلا ذرّ للرماد في العيون بعد أن تبيّن تسرّع ذلك القرار وتجاوزه صلاحية السلطة التنفيذية، ثم لماذا الإصرار على أن تكون هيئة إصلاح القضاء على أساس المحاصصة الحزبية صلب المجلس التأسيسي؟
أليس أهل مكة أدرى بشعابها؟ أين الفصل بين السلطات؟ بقي القانون كما في السّابق يُطبّق على الضعيف (الزوّالي) ويتعامى عن المتغوّلين وأصحاب النفوذ.
' الصحافة والإعلام: تسعى الحكومة جاهدة لإخضاعه تحت إرادتها سواء بالتعيينات المُسقطة الخارجة عن صلاحياتها لوجوه دعمت النظام القديم (مادامت تلك الوجوه أعلنت ولاءها للاخوانجية) وعزل وجوه وأطراف تمرّدت، وما قضية الإعلامي سامي الفهري إلا تجسيد لذلك، فكما أشرت سابقا أُخرج ملفّه المركون على الرفّ ونفس الرفّ جاهز لاستقبال نفس الملف إن تراجع وأظهر الولاء، وهي نفس سياسة تكميم الأفواه في العهد البائد، لست مدافعا عن الفهري، لكني مع محاسبة الجميع بدون استثناء وضد كل سياسة تستخف بعقول الناس.
أصبحنا نرى أن من كانوا يتبعون ويمجّدون 'حزب التجمع' السابق المنحل يعتلون أرفع المناصب في الإدارة التونسية فهم: وطنيون إن أعلنوا ولاءهم للإخوان وإن لم يفعلوا فهم 'تجمعيون'.. أليس هذا صكّا من صكوك الغفران؟
- آخر تحديث :
التعليقات