حميد الكفائي


لم تكن الاضطرابات والاحتجاجات التي تحدث في عالمنا العربي هذه الأيام بسبب الفيلم المسيء الى النبي خارجة عن المألوف أو مفاجئة لأحد، بل هي متوقعة وكان سيكون مستغرباً جداً لو أنها لم تحصل، فنحن قوم تسيّرنا العواطف وننساق وراء الأهواء لا المصالح، وكثيرون منا قبليو التفكير أيضاً، نتعامل مع الأفراد على أنهم يمثلون الشعوب أو الدول، فإن قام أميركي أو دنماركي بعمل لا يرضينا فنحن نهاجم كل ما هو أميركي أو دنماركي، وأول ما نراه أمامنا هو البعثات الديبلوماسية المنتشرة في عواصمنا ومدننا الرئيسة فنستهدفها باعتبار أن هؤلاء الذين يشغلونها ينتمون إلى القبيلة المعادية. وهذه البعثات، المقيدة بقوانين وأعراف دولية عصرية، لها حرمة الضيافة وحصانة القانون، وهي لا تُمس في معظم دول العالم، حتى عندما يتجاوز أفرادُها القانون السائد في البلد المضيف لها، ولا يمكن حتى مقاضاتهم إلا عند رفع الحصانة عنهم من جانب دولهم، وهذا لا يحصل في العادة. وما زلنا نتذكر الشرطية البريطانية، إيفون فلتشر، التي قُتلت أمام السفارة الليبية في لندن عام 1984 عندما كانت تنظِّم مع زملائها تظاهرة لليبيين معارضين لنظام القذافي، لكن بريطانيا مع ذلك سمحت لأفراد البعثة الليبية بالمغادرة إلى طرابلس معزّزين مكرمين، والمرجح أن القاتل نفسه كان بينهم.

وعلى النقيض من هذا العمل المتسق مع القانون الدولي الذي مارسته بريطانيا، احتجز laquo;الطلبة السائرون على خط الإمامraquo; 52 ديبلوماسياً في السفارة الأميركية في طهران عام 1979 وأبقوهم رهائن لمدة 444 يوماً. وسيراً على هذه السُنّة الحسنة، احتجز laquo;القائد الضرورةraquo; صدام حسين عام 1990 كل الأجانب الموجودين في العراق والكويت، بمن فيهم الأطفال، محاولاً الاحتماء بهم من ضربات قوات الحلفاء الذين أرادوا إخراجه من دولة الكويت laquo;الشقيقةraquo; التي استباحها. وما زلنا نتذكر اجتماعه بمجموعة منهم laquo;ليطمئنraquo; إلى أن أطفالهم يتناولون الحليب الضروري لصحتهم! وفي المقابل، لم ترد بريطانيا أو أي من الدول الغربية باحتجاز العراقيين مثلاً، المنتشرين فيها، بمن فيهم أولئك الذين أرسلتهم الحكومة العراقية للدراسة، من عسكريين ومدنيين. الحقيقة التي علينا أن نتجرّعها هي أن البعثات الديبلوماسية والجاليات الأجنبية تنتمي إلى العصر الحديث، بينما كثيرون منا ما زالوا يفكرون وفق معايير العصور التي سبقت قيام الدولة الحديثة.

المحتجون في بلداننا، وأولهم أبطال صولة بنغازي، يعتقدون أن الفيلم المسيء الى النبي كان بتدبير من حكومة الولايات المتحدة الأميركية التي تعاونت مع إسرائيل بهدف الإساءة إلى المسلمين وإهانة مقدساتهم! ولِمَ لا؟ أليست هذه هي المعلومات التي نقلتها لهم وسائل الإعلام؟ وهم في هذا التفكير غير ملومين لأنهم يتلقون معلوماتهم ممن يفترض أنهم أعلم منهم كالكتّاب والصحافيين وبعض رجال الدين والسياسيين الذين أدمنوا تفسير كل شيء وفق نظرية المؤامرة، فكل ما يحدث حولنا laquo;معدّ سلفاًraquo; وفق laquo;خطة مرسومةraquo; تشرف عليها الـ laquo;سي آي إيهraquo; أو الموساد أو كلتاهما، والهدف هو طبعاً laquo;السيطرة على النفط وإبقاء أمتنا متخلفةraquo;! ألم يقل الرئيس علي عبدالله صالح إن laquo;الربيع العربيraquo; هو من تدبير البيت الأبيض وتنفيذ إسرائيل! فهل من المعقول أن يكون الشعب اليمني، الذي انتفض بملايينه من أجل الحرية، مأموراً ومنفذاً لأجندة أميركية-إسرائيلية معادية للعرب والمسلمين؟ ثم ماذا عن التونسيين والمصريين والليبيين والسوريين؟ هل هم أيضا مسيّرون من جانب أميركا وإسرائيل؟ الرئيس صالح ليس وحيداً في هذا النمط من التفكير، وهذا الأسلوب في مخاطبة الآخر. فكثيرون من كتّابنا وفقهائنا وشعرائنا وصحافيينا وسياسيينا يرددون أفكاراً لا تمت إلى الواقع أو المنطق السليم بصلة، والمحزن أن بعضهم يعرف مسبقاً أنها خاطئة وغير واقعية، لكنه مع ذلك يتبناها رسمياً، خوفاً أو طمعاً. مجتمعاتنا اعتادت على نمط واحد من التفكير، ومن يحاول أن يفكر خارج المألوف فهو منبوذ ومحارب وخارج عن الدين والأخلاق والأعراف، لذلك يلجأ كثيرون منا إلى عدم التمرد على السائد والمألوف، فالأسهل لنا هو ترديد الأفكار المتداولة حتى وإن كنا لا نؤمن بها، فهي من كثرة ما ألفناها ورددها كبارنا على مسامعنا، أصبحت مقدسة وصحيحة ولا يجوز أن نشكك بها أو نتحداها أو نتخلى عنها. نحن نتربى على السمع والطاعة فقط، وفي العراق وسورية، فرض البعثيون شعارهم المقدس laquo;نفّذ ثم ناقشraquo; وجعلوه ثقافة مجتمع لأنهم الحاكمون ويجب على الناس أن تكون laquo;على دين ملوكهاraquo;! إنهم في الحقيقة يقصدون laquo;نفّذ ولا تناقشraquo; لأن ما الفائدة من المناقشة بعد التنفيذ؟ فقد laquo;سبق السيف العذلraquo;! نعم، السيف أولاً، لأنه laquo;أصدق إنباء من الكتبraquo;.

في العراق مثلاً، تشنّ قوات الأمن بين الفينة والأخرى هجمات على النوادي الاجتماعية والفنية والأدبية في العاصمة وباقي المدن الكبرى وتغلقها وتتعسف في التعامل مع أصحابها وروادها ولا أحد يعرف السبب حتى الآن، فهل هو laquo;عدم وجود تراخيصraquo; كما تقول الرواية الرسمية، أم أنه ضيق بالآخر ونمط حياة لا يستسيغه الحاكمون؟ أم أنه استهداف لشريحة معينة من المجتمع؟ لماذا يكرر هؤلاء أخطاء من قبلهم؟ وما الذي يضرّهم من وجود أنماط وأنساق متنوعة من الحياة في البلد الواحد؟ هل تُخِل هذه النوادي بالأمن؟ أم تضر بالاقتصاد؟ وهل يخطط روادها أو أصحابها لانقلاب عسكري؟ أم كُتِب على بلداننا أن تعيش أبد الدهر ضعيفة وقلقة، يظلِم كل من يتولى السلطة فيها مَن يعتقد أنهم أضعف منه؟ الغريب أن حكام اليوم عانوا الأمرّين من القمع والملاحقة من حكام الأمس ولم تكن الحجج التي سيقت سابقاً لتبرير الظلم تختلف كثيراً عن الحجج التي تساق اليوم.

البلدان المستقرة هي التي تسمح بالتنوع والاختلاف وتحمي الحريات وتساوي بين المواطنين ولا تفرض أمزجة الطبقة الحاكمة وعقيدتها وأفكارها على الجميع، لأن المزاج يتغير بتغير الظروف، والعقائد والأفكار تتطور بمرور الزمن ومن كان اليوم متشدداً دينياً أو سياسياً فسيصبح غداً متسامحاً ومتساهلاً. ومن يؤمن اليوم بعقيدة ما فقد يغيّرها غداً إلى أفضل منها. وفي كل الاحوال، فإنه إن أباح لنفسه أن يفرض أفكاره على الآخرين، فإن هذا المنطق سيسود في المجتمع وأن الآخرين سيسعون إلى الشيء نفسه عندما تسنح لهم الفرصة. وفي عالم متغير، لن يضمن أحد أنه سيبقى سيداً طول الوقت. لذا، فإن من مصلحة الجميع أن تُحترم خيارات الناس جميعاً كي نؤسس لنمط حياة يستفيد منه كل أفراد المجتمع، حالياً ومستقبلاً.