عبدالله بن بجاد العتيبي

التكفير أو إخراج الناس من الملّة فرادى أو جماعات هو أحد ركائز الفكر المتطرف المنحرف وهو ذو مصادر متعددة فكرياً ودينياً تقف على رأسها التنظيرات الشمولية التي طرحها ونشرها بعض رموز الإسلام السياسي من أمثال أبي الأعلى المودودي وسيد قطب ومن تبعهما وتأثر بهما.

إنّ مفاهيم من مثل laquo;الجاهليةraquo; أو laquo;الحاكميةraquo; التي طرحها المودودي وتبعه عليها سيد قطب هي مفاهيم مؤسسة لتكفير المجتمعات والشعوب المسلمة كما في الأول، وتكفير الدول والحكومات كما في الثاني، وهي مفاهيم نمت وترعرت تحتها كثير من جماعات العنف الديني منذ نهاية الستينيات الميلادية وإلى الواقع المعيش.

بعد حرب طويلة مع الإرهاب خاضتها الدول العربية والإسلامية والعالم بأسره لم تزل للإرهاب جيوبٌ خلفيةٌ لم يتمّ القضاء عليها وتنظيراتٌ لم تتمّ تعريتها بالشكل المطلوب، وبعد laquo;الربيعraquo; الأصولي الذي ضرب بجرانه على عدد من الدول العربية حدث انتشاء لدعاة التكفير ومروّجيه ومسوّقيه فبدأوا بالظهور مجدداً على السطح تحت شعارات الحرية الزائفة والديموقراطية المغشوشة.

في مصر تداول الناس مقطعاً مصوّراً لمتشدد يكفّر فيه قيادة laquo;جبهة الإنقاذraquo; المصرية: حمدين صبّاحي ومحمد البرادعي وعمرو موسى ولا يكتفي بالتكفير بل ينتقل مباشرةً للإفتاء بقتلهم، ومع أنّ التكفير بحدّ ذاته هو تسويغ للقتل واستباحة الدمّ فقد جاءت فتوى القتل لمجرد التأكيد، وفي تونس انتشر مقطع لمتشدد آخر يؤكد فيه تكفير laquo;شكري بلعيدraquo; ويهدّد بقتله وتصفيته، وهو ما حدث فعلاً بالأمس القريب حيث تمّ اغتياله.

وثالثةٌ أشدّ وأنكى تتمثل في خروج محمد العريفي وهو داعية سعودي على إحدى الفضائيات ليقول إن المنتمين لتنظيم laquo;القاعدةraquo; ليسوا من المتساهلين بتكفير المسلمين وليسوا من المتساهلين في إراقة الدماء، وهذا laquo;دفع بالصدرraquo; كما كان يقول الذهبي في السير، وإنكار ما بعده إنكار لواقعٍ يعرفه عوامّ الناس، وهو وإن تراجع عن هذا القول الشنيع لاحقاً، فإنه دلالة مهمة على أنّ كثيراً من نجوم الدعاة جهلة بالعلم الشرعي وجهلة بالواقع وجهلة بتيارات التكفير والتطرف وجماعات العنف والإرهاب.

يصدق في هذا وأمثاله من المتسوّرين على العلم الشرعي والمتأكلين بالانتساب إليه والمستنكفين عن أقوال كبار الفقهاء والعلماء الذين لم يزالوا يحذّرون من التكفير ومن تنظيم quot;القاعدةquot; وتضليله والهجوم عليه وعلى خطابه وأتباعه، يصدق فيهم ما قاله السيوطي: quot;كيف يقاس من نشأ في حجر العلم منذ كان في مهده، ودأب فيه غلاماً وشاباً وكهلاً، حتى وصل إلى قصده، بدخيل أقام سنوات في لهو ولعب، وقطع أوقاتاً يحترف فيها أو يكتسب، ثم لاحت منه التفاتة إلى العلم، فنظر فيه وما احتكم، وقنع منه بتحلة القسم، ورضي بأن يقال: عالمٌ وما أتسم؟quot; الأشباه والنظائر ص28.

هذا مع ملاحظة أنّ الدفاع عن تنظيم quot;القاعدةquot; وأمثاله من التنظيمات العنفية الدموية، أصبح ديدن كثيرين من هؤلاء الدعاة وأضرابهم، ويمكن رصد مواقفهم مما يجري في دولة مالي على سبيل المثال، حيث تجد صوتهم عالياً في الدفاع عن quot;القاعدةquot; والإرهابيين هناك، وما ذلك إلا لرحم الآيديولوجيا التي تجمعهم والخطاب الذي يوحّدهم، مع أنّ الجميع يعلم أن تلك التنظيمات لم تزل تعيث فساداً في تلك الديار تقتل الآمنين والمدنيين من المسلمين والمستأمنين، وتفرض على الناس الخضوع لها ولتطرفها بقوة السلاح والعنف، بل وتحرق مخطوطات تراثية قيّمة من الفقه والعلم والتاريخ وشتى الفنون الإسلامية في أعمال عبثية يدفع لها التطرف فلا تحرّك ساكناً لدى هؤلاء المؤدلجين.

يعبّر مصطلح quot;الداعيةquot; و quot;الدعاةquot; عن لفظٍ هجينٍ ليس له معنى محددٌ ومنضبط فهم ليسوا من الفقهاء ولا المحدثين ولا المفسرين ولا غيرها من المصطلحات الأكثر انضباطاً في توصيفات طلبة العلم الشرعي تراثياً، ولكنّه أصبح مصطلحاً لكل من وجد في نفسه جرأةً مع جهل يتقحّم بها في دقائق العلم واشتباكات الواقع والتباساته فيخرج على الناس بالعجائب والغرائب، والأمثلة وفيرةٌ والنماذج لا تكاد تحصى.

إنّ هؤلاء المسمّين بالدعاة يقترفون الفظائع ويقعون في الغرائب والعجائب، ولكنّ كثيراً من الناس قد دجّنوا على اتباعهم والعناية بكل ما يصدر منهم، وإلا فحين يصرّح المذكور بنزع المشروعية السياسية عن دولة خليجية (الكويت) وحين يضيف سورةٌ للقرآن الكريم هي سورة quot;التفاحquot; وحين يحذّر البنت من الجلوس مع أبيها لوحدهما باعتبار ذلك فتنةً للأب، وحين يقوم بسرقة كاملة لخطبة دينية، وحين يقوم أمثاله بسرقة كتب برمّتها، وأمثالها من التصرفات التي تعدّ في المجتمعات الحيّة والواعية فضائح لا تغتفر إلا أنهم يعتبرون ذلك مجرد عثرة صغيرة في الطريق، ولا يلبثون أن يفتحوا صفحةً جديدةً ويبدأون باسم الله ويستأنفون المسير!

إنّ هذا الصنف ممن يسمّون بالدعاة هم مطايا الإسلام السياسي وجماعاته إن لم يكونوا من صغار الأتباع والمنتمين، تتلاعب بهم تلك الجماعات، وهم يسيرون في ركابها، ويقدّمون الغالي والنفيس في خدمتها بوعي حيناً وبجهل أحياناً أكثر.

من السهل تفهّم أنّ مثل هؤلاء الدعاة يجدون لهم مكاناً رحباً في قنوات التطرف التي تناسلت في دول الانتفاضات والاحتجاجات العربية غير أنّ من العسير فهم أن يمنحوا مساحات وبرامج في فضائيات معتبرة وبخاصة في دول الخليج العربي، فتمكين مثل هذه الخطابات الجاهلة والجريئة من الوصول لعامة الناس عبر قنوات يفترض فيها متابعوها سلامة الرؤية ونقاء المحتوى هو أمر خطير بحاجة لإعادة نظر سريعة تمنع تغلغل مثل هذه الخطابات في مؤسسات إعلامية تحظى باحترام وتقدير وثقة بحكم مصدرها وطبيعتها.

نعم، لم نعد في زمن الحجب والمنع وبإمكان هذه الخطابات أن تمرّ من خلال وسائل التواصل الاجتماعي المتعددة، ولكنّ الفارق يكمن في أنّ هذه الخطابات في تلك الوسائل لا تحظى بثقة عامة الناس ولا تستظل بتزكية تلك القنوات، وخروج داعية ما في تلك القنوات، وإن اقتصر حديثه على مكارم الأخلاق ونحوها من مواضع الاتفاق إلا أنّه يعتبره رصيداً مهماً له حين يتحدّث عن مكنونات التطرف في خطابه وحجم التعاطف مع القاعدة والإسلام السياسي الذي يعبّر عنه بحرية خارج تلك القنوات.

ختاماً، فإنّ الوعي بخطر الإسلام السياسي وخطر تنظيم quot;القاعدةquot; يجب أن يكون شاملاً ومتماسكاً.