احمد سيد احمد

جاءت موافقة مصر علي تسليم عدد من المسئولين الليبيين السابقين المرتبطين بنظام القذافي إلي ليبيا خطوة مهمة في طريق إزالة الشوائب التي عاقت تطبيع العلاقات بين البلدين وتأسيسها علي ركائز جديدة في مرحلة ما بعد ثورتيهما ويعكس أيضا برجماتية الإخوان في إدارة السياسة الخارجية.


فرغم مرور عامين علي التغيير السياسي في كلا البلدين إلا أن العلاقات بينهما انحسرت بين حالة اللاتقارب واللاتباعد نتيجة لانشغال كليهما في مشكلاته الداخلية, وساهم فيها تأخر مصر في تسليم طرابلس المسئولين الليبيين السابقين الذين تورطوا في جرائم مالية وجنائية ضد الثوار, وهو ما انعكس في عدم تطور مجالات التعاون, وقيام الجانب الليبي بغلق الحدود مع مصر أكثر من مرة, واستمرار فرض التأشيرة علي دخول العمال المصريين, وتعرض عدد من المواطنين المصريين الأقباط لتجاوزات متكررة, كما حدث في تفجير أحد مباني الكنيسة القبطية في بنغازي, ثم اعتقال عدد منهم بتهمة التبشير, وتعرضهم لانتهاكات كبيرة, وكل هذا عكس حالة الحذر والشك التي انتابت تلك العلاقات.
وإذا كانت علاقات الدول لا تعرف عداوات أو صداقات دائمة وإنما مصالح دائمة, فلاشك أن طبيعة الظروف الداخلية والتحديات في كلا البلدين قد سارعت إلي تغليب لغة المصالح وحساباتها علي لغة العواطف وقيودها, فمصر لديها أزمة اقتصادية خانقة تجلت في تراجع احتياطيات البنك المركزي وانخفاض سعر صرف عملتها واحتدام أزمة نقص الوقود, وليبيا لديها موارد اقتصادية هائلة لكنها تواجه محاولات بقايا نظام القذافي عرقلة ثورتها وإشاعة عدم الاستقرار, ومن هنا كانت موافقة مصر علي تسليم أحمد قذاف الدم, منسق العلاقات بين البلدين ومكمن أسرارها في عهد القذافي, وعلي ماريا القائم بالأعمال السابق وغيرهما, مع الحصول علي تعهدات من الجانب الليبي بتقديم الضمانات والمستندات التي تضمن محاكمتهم بصورة عادلة ووفقا للقوانين الدولية. وبدوره تلقف الجانب الليبي ببرجماتية أيضا الخطوة المصرية بتقديم2 مليار دولار كوديعة في البنك المركزي والاتفاق علي تصدير مليون برميل نفط خام لتكريره في مصر لحل أزمة السولار, في مشهد يظهر أننا أمام مقايضة فرضتها الاعتبارات البرجماتية البحتة لطرفين يحتاج كل منهما إلي الآخر.


ومن هنا فإن نجاح الإخوان المسلمين في إدارة السياسة الخارجية بعد الثورة, يرتكز في قدرتهم علي انتهاج المنطق البرجماتي, وليس المنطق الديني والتقارب الايديولوجي, الذي يعلي مصلحة مصر العليا علي أية اعتبارات أخري, فمن ناحية فهؤلاء المسئولون الليبيون ليسوا في حالة اللجوء السياسي الذي يحتم علي الدولة المصرية معاملتهم في إطارها, وإنما هم في حالة مرتكبي الجرائم السياسية والمالية التي يتوجب عليها تسليمهم لاعتبارات أخلاقية وقانونية, خاصة في ظل حجم الأموال الضخمة التي استولوا عليها لعلاقاتهم الوثيقة بالقذافي, واستمرار ممارسة نفوذهم ضد الثورة الليبية, ومن ناحية ثانية هناك مصالح حقيقية بين البلدين وتحديات مشتركة تحتم التقارب والتعاون, وتتجاوز هذه المقايضة, فبالإضافة لاعتبار أن ليبيا تعد جزءا أصيلا من الأمن القومي المصري, فإن لمصر أكثر من ثلاثة ملايين عامل هناك, كما أنه في ظل أزمتها الاقتصادية الخانقة فهي بحاجة إلي الأموال والاستثمارات الليبية, كذلك الاعتبارات الأمنية في وقف تهريب الأسلحة وانتشار العناصر المتطرفة علي الحدود, وفي المقابل فإن ليبيا, وهي في مرحلة بناء الدولة من جديد علي أسس ديمقراطية وعصرية لتحل محل نظام الجماهيرية, تحتاج إلي الخبرة المصرية وذات الحال في عملية إعادة الإعمار خاصة في مجالات البنية الأساسية والتشييد.


وإضافة لذلك كله فكلا البلدين يحتاج إلي التعاون والتنسيق لضمان نجاح ثورتيهما في ظل التعثرات الكبيرة التي تواجههما, مع اتساع الفجوة بين تطلعات وطموحات الجماهير وضعف أداء النظم الحاكمة التي يسيطر عليها الإسلاميون وتزايد حدة الاستقطاب في المجتمع بين التيارات المدنية والتيارات الدينية والصراع بين النظام الجديد وأنصار النظام القديم, وهذا التحدي يضع التجربة الإسلامية علي المحك في كلا البلدين, فشرعية الإنجاز وليس الشرعية الدينية سوف تكون العامل الحاسم في نجاحها أو فشلها.


لغة حسابات المصالح, وليس الأيديولوجيا الدينية, في ظل حكم الإسلاميين تفرض منهجا جديدا في علاقات مصر وليبيا يقوم علي منطق التعاون الاقتصادي والتنسيق السياسي والأمني, خاصة أن هناك أرضية مشتركة وروابط تاريخية وعوامل تكاملية يمكن البناء عليها, بما قد يساعد علي بناء نموذج للعلاقات يمكن أن يضم بعد ذلك دول الربيع العربي الأخري. لكن حسابات المصالح أيضا تفرض علي ليبيا مراعاة مصالح حلفائها في الناتو, الذين لعبوا الدور الرئيسي في مساعدة الثوار في إسقاط نظام القذافي, وانعكست في منح الشركات الغربية النصيب الأكبر من كعكة النفط وعقود إعادة الإعمار, وهنا التحدي الأساسي حول كيف يوفق النظام في البلدين بين حسابات المصالح, وحسابات تقديم نموذج إسلامي ناجح سواء في إدارة البلاد وتحقيق النهضة, أو عدم تصادم مصالحهما مع المصالح الغربية؟ وهو الأمر الذي سوف يحدد بشكل كبير مستقبل علاقات الدولتين بل ومستقبل التجرية الإسلامية.