صالح القلاب
أعطى laquo;إخوان سورياraquo; مؤشرا على أنهم قد ينقلبون على كل ما تعهدوا به في بدايات انطلاقة الثورة السورية عندما لجأوا إلى فرض مرشحهم لرئاسة الحكومة المؤقتة غسان هيتو، الذي لا اعتراض عليه لا لشخصه ولا لتجربته ولا لـlaquo;كرديتهraquo;، بطريقة التحايل والتسلل وفرض الأمر الواقع، وهي الطريقة نفسها التي اتبعها laquo;إخوان مصرraquo; للقبض على مقاليد الأمور هناك، وكانت النتيجة كل هذه الفوضى العارمة، وكل هذا الانفلات الأمني الذي بعد استفحاله بات يهدد بعواقب وخيمة.
ولعل ما ينذر بعواقب وخيمة، إذا لم يتم تدارك الأمور بسرعة، وتصحيح مسار العلاقات بين أطراف وقوى المعارضة السورية، وبين هذه الأطراف والقوى وبعض الدول العربية، أن ما جرى في إسطنبول بالنسبة لـlaquo;المسرحيةraquo; الإخوانية في اختيار زميلهم غسان هيتو رئيسا للحكومة المؤقتة كان بتخطيط وإشراف طرف عربي بات بروزه في معادلة المعارضين السوريين ليس مزعجا فقط، وإنما أيضا مثيرا لمخاوف محقة من أن يحدث في سوريا، التي أوضاعها أكثر تعقيدا وتداخلا، ما يجري الآن في مصر، وربما أشد خطرا وأكثر مأساوية.
وللتذكير فقط فإن laquo;إخوان سورياraquo;، الذين فعلوا ما فعلوه بالنسبة لأسلوب وطريقة اختيار رئيس الحكومة المؤقتة، والذين لجأوا إلى انتخابات كانت مهزلة بالفعل، كانوا قد أصدروا laquo;عهدا وميثاقاraquo; قالوا فيه إنه يؤسس لعلاقة وطنية معاصرة وآمنة بين مكونات المجتمع السوري بكل أطيافه الدينية والمذهبية والعرقية، وتياراته الفكرية والسياسية.
لقد جاء في هذا العهد والميثاق الذي أعلن الإخوان المسلمون التزامهم به، ولكنهم - كما يبدو - قد تخلوا عنه وعن كل ما ورد، عند أول منعطف فعلي، الذي هو منعطف اختيار رئيس الحكومة المؤقتة:
أولا: دولة مدنية حديثة تقوم على دستور مدني منبثق عن إرادة أبناء الشعب السوري، قائم على توافقية وطنية، تضعه جمعية تأسيسية منتخبة انتخابا نزيها يحمي الحقوق الأساسية للأفراد والجماعات من أي تعسف أو تجاوز، ويضمن التمثيل العادل لكل مكونات المجتمع.
ثانيا: دولة ديمقراطية تعددية تداولية وفق أرقى ما وصل إليه الفكر الإنساني الحديث، ذات نظام حكم جمهوري نيابي، يختار فيها الشعب من يمثله ومن يحكمه عبر صناديق الاقتراع في انتخابات حرة نزيهة شفافة.
ثالثا: دولة مواطنة ومساواة، يتساوى فيها المواطنون جميعا على اختلاف أعراقهم وأديانهم ومذاهبهم واتجاهاتهم، تقوم على مبدأ المواطنة التي يحق لأي مواطن، على أساسها، الوصول إلى أعلى المناصب استنادا إلى قاعدتي الانتخاب والكفاءة، كما يتساوى فيها الرجال والنساء في الكرامة الإنسانية والأهلية، وتتمتع فيها المرأة بحقوقها الكاملة.
رابعا: دولة تلتزم بحقوق الإنسان كما أقرتها الشرائع السماوية والمواثيق الدولية، من الكرامة والمساواة، وحرية التفكير والتعبير، وحرية الاعتقاد والعبادة، وحرية الإعلام، والمشاركة السياسية، وتكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية، وتوفير الاحتياجات الأساسية للعيش الكريم.. لا يضام فيها مواطن في عقيدته، ولا في عبادته، ولا يضيق عليه في خاص أو عام من أمره.. دولة ترفض التمييز، وتمنع التعذيب وتجرمه.
إن هذه هي البنود الأربعة الأساسية من laquo;ميثاق إخوان سورياraquo; الذي تم إعلانه في الخامس والعشرين من مارس (آذار) 2012، وهي جزء من عشرة بنود جاء في البند العاشر منها: إن دولة المستقبل ستكون دولة تعاون وألفة ومحبة بين أبناء الأسرة السورية الكبيرة، في ظل مصالحة وطنية شاملة تسقط فيها كل الذرائع الزائفة التي اعتمدها نظام الفساد والاستبداد لتخويف أبناء الوطن الواحد بعضهم من بعض، ولإطالة أمد حكمه، وإدامة تحكمه برقاب الجميع.
فما الذي جرى منذ مارس الماضي حتى مارس الحالي عام 2013؛ أي خلال عام واحد؟ وكيف تصرف الإخوان المسلمون السوريون خلال هذا العام؟ وكيف تعاملوا مع زملائهم في المعارضة السورية؟ وهل هم فعلا قد رعوا تطبيق هذا الميثاق المشار إليه أم أن laquo;حليمةraquo; قد بقيت تتمسك بعادتها القديمة، مما عزز المخاوف من تجربة سورية جديدة كتجربة الأربعين سنة الماضية، ومن أن كل هذه التضحيات التي قدمت، وكل هذه الدماء التي سالت، هي من أجل استبدال حزب استبدادي جديد بحزب استبدادي قديم، وأن الأمور في الجوهر ستكون بقاء كل شيء على ما كان عليه..؟!
إن هذه مجرد مخاوف، وهي مخاوف محقة؛ فالأمور في العادة بخواتمها، وليس بالبيانات وبالمواثيق التي سبقتها، وحقيقة أن ممارسات الإخوان المسلمين، وإن هم بقوا يحركون laquo;البيادقraquo; من خلف الستارة على غرار ما يجري في مسرح العرائس، خلال كل هذه الفترة، من تجربة قوى المعارضة وأطرافها وتآلفاتها واختلافاتها، لا تبشر بالخير، وتدل على أن كل ما جاء في الميثاق الآنف ذكره هو من قبيل ذر الرماد في عيون الآخرين، ومن قبيل الضحك على ذقونهم؛ فهم، أي laquo;الإخوانraquo;، بقوا يفرضون laquo;أجنداتهمraquo; على رفاق المسيرة فرضا، وعلى أساس الاستعانة ببعض مصادر الدعم العربي، والانصياع ليس لتوجيهات بل لأوامر من اعتبر نفسه منذ اليوم الأول، laquo;ولي فقيهraquo; ثورات الربيع العربي، وعلى أساس أن مكانته فيها ليست كمكانة علي خامنئي وإنما كمكانة الإمام الخميني بالنسبة للثورة الإيرانية.
لقد أثبت الإخوان المسلمون، خلافا لكل ما قالوه وما أكدوا عليه في هذا laquo;الميثاقraquo; الذي استقبل في سوريا وفي هذه المنطقة كلها بفرح غامر، أنهم يقولون شيئا ويفعلون شيئا آخر، وأن كلام الليل بالنسبة إليهم يمحوه النهار، فهم منذ اليوم الأول واللحظة الأولى، قد تعاملوا مع باقي أطراف وقوى المعارضة السورية بتعال، وبصورة فوقية، وهم حاولوا - وقد حققوا بعض النجاح في هذه المحاولات - أن يحولوا هذه القوى وهذه الأطراف إلى مجرد laquo;ديكورraquo; تزييني، إنْ في المجلس الوطني، وإنْ في laquo;الائتلافraquo; الذي جرى اختراعه لاحقا، وكل هذا استنادا إلى جهة عربية لا بد من توجيه الشكر الجزيل إليها على كل ما قدمته وما تقدمه، لضمان انتصار الشعب السوري في معركته المصيرية مع هذا النظام الاستبدادي، الذي لم يعد له أي مثيل في كل الكرة الأرضية.
ولعل ما لم يسترعِ انتباه الإخوان المسلمين، وهم منشغلون بمسرحية ومناورة انتخاب رئيس الحكومة المؤقتة، ويقيمون الأفراح ويحيون الليالي الملاح بعد نجاحهم في هذه المناورة، أنهم بما فعلوه وما بقوا يفعلونه قد أعطوا مصداقية لادعاءات بشار الأسد، التي أخاف بها الأقليات المذهبية: العلويين والدروز الموحدين والشيعة والمسيحيين، القائلة إن ما حصل في مصر ضد laquo;الأقباطraquo; والقوى الليبرالية والعلمانية سوف يحصل في سوريا إذا انتصرت هذه الثورة، وإن الشعب السوري في انتظار استبداد ديني وطائفي على غرار ما حصل في أوروبا والغرب عموما في العصور الوسطى، وعلى غرار ما زال يحصل في بعض الدول الأفريقية وفي بعض الدول الآسيوية.
لقد كانت تجربة اختيار غسان هيتو laquo;الإخوانيraquo;، الذي بعد فوزه بادر الشيخ الإخواني أيضا صدر الدين البيانوني إلى احتضانه واعتصاره حتى كاد أن يكسر laquo;أضلاعهraquo;. تجربة بائسة ومرعبة ومخيفة، وذلك لأنها دقت في أوساط المعارضة laquo;إسفيناraquo; سيؤدي حتما - هذا إن لم تتم تسوية الأمور بسرعة ويتخلَّ laquo;الإخوانraquo; عن هذا النهج الانفرادي والاستفرادي المدمر - إلى حرب أهلية جديدة ستكون أشد وطأة وتدميرا من هذه الحرب المحتدمة الآن، حيث كما يبدو أن هذا النظام الغاشم والمجرم قد حقق نجاحات لا يمكن إنكارها في تحويلها إلى حرب مذهبية وطائفية.
إنه على laquo;الإخوانraquo; بعد هذه التجربة التي عززت مخاوف الجيش السوري الحر، والتي هزت وزعزعت أركان المعارضة السورية، أن يعودوا عن هذا الخطأ القاتل، وعلى أساس أن العودة عن الخطأ فضيلة، فهم كانوا قد أصدروا هذا الميثاق الواعد والهام، الذي استقبله الشعب السوري بالفرح وبالآمال العريضة، وبأن سوريا التي ينتظرها هذا الشعب ستكون دولة ديمقراطية تعددية وتداولية، وأنها ستكون دولة حقوق أساسية للأفراد والجماعات، وخالية من أي تعسف أو تجاوز، وستكون محكومة بعلاقات معاصرة وآمنة بين كل مكونات المجتمع السوري بكل أطيافه الدينية والمذهبية والعرقية، وكل تياراته الفكرية والسياسية.. فهل سيفعلها هؤلاء يا ترى، أم أنهم سيبقون يركبون رؤوسهم، وسيبقون أوفياء لفتاوى الشيخ يوسف القرضاوي وتعليماته، فيأخذون بلدهم، هذا البلد العظيم، إلى تجربة أكثر مرارة ومأساوية من التجربة البعثية الدامية والطويلة التي باتت تنفث أنفاسها الأخيرة؟
التعليقات