عرفان نظام الدين

نعيش هذه الأيام إرهاصات الموجة الثالثة من الهجوم على الإسلام وتشويه صورته وتعمد الخلط بين الدين الحنيف ومبادئه السمحة، وهو دين الوسطية والاعتدال والمحبة، وبين الحركات والاتجاهات الإسلامية أو الفئات المتأسلمة اسماً لاستغلال الدين كقناع في سبيل تحقيق مصالح آنية أو تأمين مطامع وغايات أخرى.

الموجة الأولى بدأت فور انهيار الاتحاد السوفياتي وتحطم جدار المعسكر الاشتراكي وسقوط النظرية الشيوعية عندما تحركت عدة جهات تغذيها وتحرضها الحركة الصهيونية للتحريض ضد الإسلام والمسلمين والزعم بأن العدو الأكبر للمعسكر الديموقراطي سيكون الإسلام وأن الصراع المقبل سيكون صراع حضارات، أي بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية. وشارك في تقديم هذه النظريات والمؤامرة التحريضية رجال سياسة ودين وأحزاب ومؤسسات مثل مؤسسة laquo;راندraquo; التي أطلقت وصف laquo;الإسلاموفوبياraquo; على الحال الراهن، وبعض الكتاب والمفكرين مثل صموئيل هنتنغتون صاحب نظرية laquo;صراع الحضاراتraquo; وفوكوياما صاحب نظرية laquo;نهاية التاريخraquo; التي تراجع عنها بعد ثبوت فشلها وعدم مطابقتها للواقع.

وتواصلت الحملة إلى أن تحقق لهؤلاء جميعاً، ما أرادوا لتكر علينا هجمة أشرس كرد فعل لزلزال تفجيرات نيويورك وواشنطن وتبني laquo;القاعدةraquo; لها ولغيرها من العمليات الإرهابية، ما استدعى تشكيل رأي عام عالمي يكره كل ما هو مسلم ويلصق تهمة الإرهاب بالإسلام وما تبع ذلك من غزو لأفغانستان والعراق وردود الفعل الأخرى المعروفة. والواقع أن الحملة لم تتوقف منذ بدايتها، بل جعلتها laquo;القاعدةraquo; وقوداً لأحقادها وصبت على نار العداء زيتاً لتزيدها اشتعالاً وحقداً.

الجولة الثالثة بدأت مع تباشير قيام الربيع العربي وتمثلت في تشويه صورته بنشر المخاوف من صعود ما يسمى بالإسلاميين إلى الحكم وسيطرتهم على المنطقة بأسرها تمهيداً لحروب واضطرابات توصل إلى ما هدفت إليه نظرية صراع الحضارات.

والمؤسف أن الكثير من العرب أسهموا من حيث يدرون أو لا يدرون في الترويج لهذه الأباطيل، وهو ما أشرت إليه في مقال سابق في حينه محذراً من laquo;الإسلاموفوبياraquo; العربية، أي مشاركة العرب في مؤامرة التخويف من الإسلام.

ولا أقول أن الأخطار ليست قائمة في حال صعود المتطرفين إلى السلطة في أي مكان، ولكني أجزم بأن الخلط بين الإسلام كدين وبين كل هذه الحركات العاملة في الساحة هو خطأ كبير لا يجوز أن يقع فيه العرب والمسلمون وينتهوا إلى المساهمة في التضليل وقلب الحقائق وتشويه صورة دينهم الحنيف للأسباب التالية:

bull; إن كل هذه الحركات القائمة هي حركات سياسية توصف خطأ بـ laquo;الإسلام السياسيraquo; لأنه ليس هناك ما يسمى بالإسلام السياسي والإسلام غير السياسي. فهي في الحقيقة أحزاب تسعى للوصول إلى السلطة وتتخذ الدين ستاراً أو قناعاً لتحقيق أهدافها.

bull; إن التضليل وصل إلى الخلط بين الإسلام كدين وبين كل هذه التسميات الأخرى مثل السلفيين والجهاديين والأصوليين والمتطرفين و laquo;القاعدةraquo;، التي تدعي أنها تختصر كل المسلمين في بوتقتها، فيما جماعة laquo;الإخوان المسلمينraquo; اكتفت بربط اسمها بالمسلمين وليس بالإسلام وهذه خطوة عقلانية، لأنه لا يمكن لأي جهة أن تحتكر ارتباط الإسلام باسمها مع أن جميع المسلمين أخوة لا تفرقة بينهم ولا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى ولهذا من الخطأ حصر كلمة laquo;الإخوان المسلمينraquo; بحزب أو بجماعة.

bull; إن الفرق كبير بين الحركات القائمة أو الاتجاهات السائدة، فالسلفيون يمثلون الاعتدال والعودة إلى السلف الصالح مع الأصوليين الذين يطالبون بالعودة إلى أصول الدين، أي القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. أما laquo;الإخوانraquo; فهم حزب سياسي بكل معنى الكلمة يعمل منذ قرن من الزمان فيما الحركات المتطرفة اتخذت العنف سبيلاً لها وأساءت إلى نفسها وإلى الإسلام ولم تجن على نفسها سوى الويلات والحروب والتدخل الأجنبي.

bull; إن الإسلام أكبر وأشمل وأكثر عدلاً وحكمة من كل هذه الحركات فهو دين المحبة والسلام والتعايش ودين laquo;إدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنةraquo;، وهو دين laquo;لا إكراه في الدينraquo; و laquo;من يكفر فليكفر وليؤمن من يؤمنraquo;، ودين التسامح والتوجه في الدعوة بالحكمة والكلمة الطيبة والأسلوب الحضاري الراقي وليس كما نشهد من ممارسات بعض الحركات من عنف وإكراه وفظاظة وخشونة مخالفين قول الباري عز وجل في محكم تنزيله laquo;لو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولكraquo;.

bull; إن الإسلام نفسه ركز على المؤمنين كصفة أساسية للمسلمين: laquo;لا تقولوا أسلمنا بل قولوا آمناraquo;، كما أنه دين للمسلم والتسامح مع أهل الكتاب والذين قالوا laquo;إنا نصارىraquo; ووصفهم بأنهم أكثر الناس مودة للذين آمنوا. وهذا ما جرى عندما عاش المسلمون والمسيحيون جنباً إلى جنب وفق العهدة العمرية الشهيرة وغيرها لأكثر من 14 قرناً من دون أن يتعرض أحد لهذه اللحمة الحضارية أو لكنائس وأديرة وممتلكات المسيحيين، وحتى اليهود عاشوا بسلام وأمان في العهود الإسلامية وفي الأندلس، إلى أن قامت إسرائيل وأوجدت أجواء العداء والكراهية بين أبناء الديانات السماوية.

هذه العوامل وغيرها تؤكد عدم جواز الخلط بين الحركات والأحزاب والإمعان في التضليل لربط الإسلام بها، وصولاً إلى محاربته ولصق تهمة الإرهاب به. والمؤسف أن بعض القيادات أسهمت في هذا التضليل أو قدمت الذرائع والحجج للأعداء للتنفيس عن أحقادهم وبث سمومهم. كما أن الإعلام يسهم اليوم في هذا الخلط ويشيع الدعايات بالترويج للإسلاموفوبيا والخوف من كل ما هو إسلامي.

وأملي كبير بأن يتبنى الإعلام العربي والإسلامي مواقف حاسمة ترفض كل هذه الترهات ويتخلى عن استخدام الصفات والنعوت والاصطلاحات التي يرددها الحاقدون حتى لا يتحول إلى ببغاء يردد الأباطيل ويسيء إلى الإسلام في كل شاردة وواردة وعند إيراد أي خبر أو تغطية الأحداث. وهذا لا يتم إلا بالكف عن ربط الحركات المتطرفة بالإسلام أو ترداد كلمة الإسلاميين عند الحديث عن أي عمل عنف أو إرهاب لأن هذا ما يريده الأعداء من عملية laquo;غسل الأدمغةraquo; وأدمغة العرب في سلم الأولويات.

فلتسم الأمور بأسمائها ولتلصق التهم بمن يقوم بأي عمل يخصه والتفريق بين الإسلام والمسلمين، وحتى الإسلام السياسي بالدين. فالإسلام هو الدين وهو الأساس ويؤمن به أكثر من بليون و200 مليون إنسان، ومن الطبيعي أن يسعى البعض إلى استغلاله أو استخدام اسمه لغايات سياسية كما يجري في العالم المسيحي حيث تكثر الأحزاب المسيحية، ولكن ما من أحد يربط الدين المسيحي بما تقوم به من أعمال وما تمارسه من سياسات.

وواجب المسلمين في كل أنحاء العالم، والعرب في مقدمهم أن يهبوا ليدافعوا عن دينهم ويرفضوا الإساءة له أو استغلاله من أية فئة وأن يدعوا العالم بالحكمة والموعظة الحسنة والإعلام الهادف إلى فهم حقيقة الإسلام ووسطيته ونبذه للعنف والإرهاب والغلو.

أما ما يروج هذه الأيام من صعود الإسلاميين وهيمنتهم وركوبهم موجة ثورات الربيع العربي فهو أكثر من مبالغة، ويصل إلى حد التضليل لأسباب عدة أولها أن الصورة لم تتضح بعد، وأن حسم الأمور يحتاج إلى سنين. إضافة إلى ثبوت عدم قدرة أية فئة أو جماعة أو حزب على التفرد بالحكم أو كسب تأييد غالبية الشعوب.

إضافة إلى ذلك، هناك مؤشرات على خلافات بين الحركات التي تتلطى براية الإسلام تبدأ من تطبيق الشريعة ولا تنتهي عند صغائر الأمور، وتصل إلى غياب الخطة الكاملة وعدم وضوح الصورة بل وضبابية المواقف من جمع القضايا المطروحة وأولها القضايا الحياتية والمعيشية والأوضاع الاقتصادية الصعبة. وما علينا سوى الانتظار.