الرياض - أحمد زين

لم يعد المهرجان الوطني للتراث والثقافة (الجنادرية)، مهرجاناً للتراث والثقافة في المعنى الضيق لهاتين المفردتين، وإنما تحول منصة للأفكار وللأسئلة التي تطرح بإلحاح في لحظتنا الراهنة، ومختبراً لنقاش أكثر المواضيع التي تشغل بال المتلقي اليوم، مثقفاً كان هذا المتلقي أم أديباً أم سياسياً أم شخصاً عادياً. من هنا فلا غرابة أن يطغى الجانب السياسي على أجواء هذا المهرجان، الذي انطلق للمرة الأولى قبل أكثر من ربع قرن. وأن يتخلى المشاركون عن صفتهم الأكاديمية أو البحثية، ليخوضوا في مواضيع الندوات الرئيسة، بخطاب سياسي، فذلك لأن اللحظة هي سياسية بامتياز، كما عبر بعض الضيوف.

ولعلّ هذا المهرجان وجد في المتغير السياسي وفي ثورات الربيع العربي، عنواناً لبرنامجه الثقافي، يربطه بما يحدث عربياً من جهة، وينقذه من اجترار ماضيه من جهة ثانية، بأن يجعله مواكباً لمرحلته، وليس متجاهلاً لمفاعيلها السياسية والاجتماعية والثقافية، على رغم تذمر البعض من هذا الطغيان السياسي على الندوات، مشاركين ووجهة نظر، مطالبين بوجود رؤى مختلفة للأدباء والمثقفين ولعالم الاجتماع والأنثربولوجي، وعدم ترك الندوات يتفرد بها السياسيون.

منذ أعوام لم يعد المهرجان يتنازل عن الخوض في قضايا الأدب والثقافة، ذاهباً إلى معالجة قضايا فكرية وسياسية، مكتفياً بأمسيتين شعريتين، وأحياناً بثلاث يجمع فيها شعراء سعوديين وعرباً، يفتقدون أحياناً للتجانس، ويوزعهم على بعض المدن الرئيسة في السعودية. ولوحظ في الدورة الجديدة للمهرجان، الذي يدعو باستمرار مفكرين وسياسيين تركوا مناصبهم السياسية، أو لا يزالون فيها، غياب الأدباء العرب والسعوديين، روائيين وشعراء ونقاداً، من لائحة ضيوفه والمشاركين في ندواته.

حضر مثقفون بالطبع، لكن ليناقشوا مواضيع سياسية، باعتبار أن الثقافة، وفقاً للكاتب المصري مصطفى الفقي، أحد ضيوف المهرجان، laquo;أضحت هي المتغير في العلاقات الدولية، وإن الظواهر التي طفت على السطح، مثل العولمة وصراع الحضارات والحرب على الإرهاب، من الظواهر التي لا بد للمثقف من أن يهتم بها ويناقشها بفكر ورؤية صادقةraquo;.

حضرت حركات الإسلام السياسي في ندوة رئيسة، وبدا لوهلة أن الجميع ضد هذه الحركات، فتحولت الندوة مناسبة للتطرق إلى انتهازيتها وأساليبها غير النزيهة في الوصول إلى ما تريده، وهناك من اعتبرها مكيافيلية أكثر من مكافيلي نفسه. وقال الباحث المصري عبدالرحيم علي إنه لا يوجد في مصر الآن، تحت حكم جماعة laquo;الإخوان المسلمونraquo;، laquo;لا عدالة اجتماعية، ولا حكم رشيدraquo;. ويلفت إلى أن laquo;الإخوان وصلوا بالخطأ لأنهم اعتقدوا أن الوصول إلى السُلطة هو البداية... ومع بقائهم 80 عاماً بعيداً من الحكم فإنهم لم يمدوا يدهم إلى الأطياف الأخرىraquo;. وطرح عبدالرحيم علي تعريفاً للحركة الإسلامية بأنها laquo;حركة سياسية تتخذ الإسلام مرجعاً، وتريد الوصول إلى السلطة في شكل رأسمالي... مع بقاء فكرتين تحكمان الإسلام السياسي، الأولى الخلافة التي انتهت وكان من المفترض أن تتطور بعد الدول الامبراطورية، والثانية الشورى التي لا بد من أن تتحول في الدول الحديثة إلى صناديق الاقتراعraquo;.

وقال الباحث عبدالحميد الأنصاري إن الإسلاميين صوروا للعالم أنهم الضحية الوحيدة للاستبداد السياسي، laquo;وهذا غير صحيح، فالقوميون والناصريون والشيوعيون تعرضوا للعذاب ذاتهraquo;. ويرى الأنصاري أن laquo;الإسلاميين ليس لديهم نظام جديد بعد وصولهم إلى السلطة، فهم يستنسخون أفكار الأنظمة السابقة، مع عدم وضوح مفهوم المرجعية الإسلامية التي يتكئون عليهاraquo;. فيما أكد الباحث عبدالله البريدي أن الإسلام السياسي laquo;تأثر بحركة الضد أو مع، فمن كانوا معه جعلوه ملائكة، والآخرون شياطينraquo;.

في هذه الندوة التي لوحظ فيها النبرة الحادة على الإسلام السياسي، لم يتفق الباحث والسياسي الإيراني عطا الله مهاجراني مع طروحات الباحث المصري سعد الدين إبراهيم التي تطرق فيها إلى اختطاف الثورات، بدءاً بالثورة الروسية التي اختطفها، على حد زعمه، لينين، ثم اختطاف الخميني لثورة الشباب في إيران، وأخيراً اختطاف يوسف القرضاوي والإخوان المسلمين للثورة المصرية. مهاجراني وصف سعد الدين إبراهيم بـ laquo;مؤلف كوميديا ساخرةraquo;، واعتبر كلامه تحريفاً، مطالباً بقراءة الوثائق كاملة التي تتحدث عن الثورة الإيرانية.

التنوير والإخفاق

وأثارت ورقة قدمها الناقد السعودي سعيد السريحي، في ندوة laquo;التنوير العربي وإخفاق النهضةraquo;، حول الشيخ محمد بن عبدالوهاب، سجالاً حاداً، فالسريحي الذي تطرق إلى الشيخ ابن عبدالوهاب بصفته رجل تنوير، وصفت ورقته بـlaquo;الديبلوماسيةraquo;، معتبرين أن دعوة الشيخ وقفت عند حدها الفقهي، ولم تذهب بعيداً إلى الشق السياسيraquo;.

السريحي، الذي يرى أن مهرجان الجنادرية يوفّر هامشاً حراً للتفكير، ويحرّض على الحديث عما يتم التوجس منه عادة خارج الجنادرية، يعتقد أن الحديث عن تنويرية دعوة ابن عبدالوهاب، laquo;منعنا عن الكلام عن مآلات الدعوةraquo;.

ونفى محمد المسفر إضفاء laquo;التنويريةraquo; على دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، قائلاً إنها وقفت أمام بعض العادات القبلية، laquo;ولكن ماذا عمل للقضايا المهمة مثل المرأة والعلاقة بين الحاكم والمحكوم؟raquo;. ويلفت الباحث يوسف مكي إلى أنه حين الكلام عن التنوير العربي، laquo;يتبادر إلى الذهن أننا نتكلم عن شيء يقارب عصر النهضة في أوروبا، مع أن الفارق بين النوعين كبيرraquo;، مؤكداً اختلاف الواقع العربي، laquo;فليست هناك ثورات، إذ قُمعت في مهدها، وهي ضد الاستبداد في بعض أطرافهاraquo;، لكنها على النقيض من التنوير الأوروبيraquo;.

ورأى المفكر علي حرب إن الصحوة تحولت عتمة، وعرّف التنوير بأنه التفكير من غير وصاية، مضيفاً أن الأزمة في العالم العربي دائمة ومتلاحقة، laquo;والأسئلة تطاول الحداثة بكل أنواعها وأزماتها، ويصح النقد على معسكر الدين في شكل مضاعفraquo;.

وفي ندوة أخرى حول البرامج الحوارية والقضايا العربية، قال إعلاميون إن السياسيين العرب يحتاجون إلى رفع مستواهم. ويرى أحمد المسلماني أن laquo;هناك خلطاً كبيراً بين السياسة والإعلام، ولكن بعض السياسيين أصبحوا إعلاميين أكثر من أبناء المهنة، فيما بعض الإعلاميين أعلى مؤهلات من السياسي، من هنا نحتاج إلى رفع الجودة للسياسيين، ومن جهة أخرى، يرى بعض الإعلاميين أن اشتباكهم مع السياسيين الجدد أهم من كل شيء، ويتغاضون عن الصدقية في الحالات الجديدةraquo;.

فيما أوضح حسن معوض أنه وحتى وقت قريب laquo;كان الحكوميون لا يخرجون مع المعارضين حتى لا يعطوهم الشرعية، فنستعيض بأن نخرج مع شخص قريب من الحكومة، أو يلجأ مقدم البرنامج إلى أن يكون هو المحامي عن الغائبraquo;. وكشف أن بعض السياسيين يطلب مقابلاً مالياً، وlaquo;هذا ما لا يُفهم، فهو يجد منبراً مجانياً للخروج!raquo;. وقالت بولا يعقوبيان إن برامج العرض السياسي الجاد تستقطب جمهوراً أقل، laquo;بل كلما قلّت الجودة ارتفعت المشاهدة والعكس صحيحraquo;.

رئيس الوزراء الإسباني السابق خويز ثابيترو، في ندوة أخرى، أعاد تأكيد تأثر اللغة الإسبانية باللغة العربية، مؤكداً أيضاً أن الأندلس كانت laquo;تجسيداً للتواصل بين الديانات الموحّدة الثلاثraquo;. وأبدى ثابيترو استعداد إسبانيا للتعرف على الحضارة الإسلامية، laquo;في العديد من المرات كنا نتساءل: هل يمكن أن تتحاور الحضارتان الغربية والإسلامية؟ وهذا سؤال قديمraquo;. وتوقف عند الربيع العربي، ليقول إن التغيير يجب أن يمر بسلام، laquo;لكي يصبح ربيعاً قابلاً للتطور والنموraquo;.

وفي ندوة حول اللغة العربية وتحديات الهوية، شارك فيها محمد المطلق، ومرزوق بن تنباك، وعبدالله عسيلان، ووسمية عبدالمحسن المنصور، وغريد الشيخ، ولم تلق اهتماماً من الحضور، تمت الدعوة إلى تدريس laquo;علوم العصرraquo; باللغة العربية، وبث الوعي اللغوي لمواجهة التحديات المعاصرة. وأوضح المشاركون العلاقة بين اللغة والهوية، والتحديات الثقافية التي تواجهها اللغة في عصر الفضاء المفتوح laquo;الإنترنتraquo;.

وللمرة الأولى يختار المهرجان شخصية العام الثقافية من النساء، إذ وقع الاختيار هذا العام على الدكتورة ثريا عبيد، التي تقلدت مناصب دولية عدة. ثريا عبيد، التي اختيرت قبل أسابيع عضواً في مجلس الشورى، اعتبرت اختيارها شخصية ثقافية للعام laquo;ليس لي كفرد، ولكن لكل امرأة في هذا الوطن، وبذلك يأتي تكريم المرأة في بلدنا تأكيداً لدورها الفعلي وإسهامها في تقدم المملكةraquo;.

وحلّت الصين ضيف الشرف في هذه الدورة، وكانت موضوعاً لإحدى الندوات الرئيسة، تحدث فيها عدد من الباحثين من الصين والسعودية.

على صعـيد الأمسيات الشعرية، تضمّن البرنامج الثقافي ثلاث أمسيات، شارك فيها عدد من الشعراء العرب والسعوديين، ومنهم المصري أحمد الشـهـاوي، والأردنـي يوسـف عبـدالعـزيـز والعـماني عقيل اللواني، ومـن الـسعـودية مـحـمـد حـبيبـي وعـلي الحــازمي وسـعد الرفاعي.