عبدالله بن بجاد العتيبي
لم تزل الفوضى في بر مصر تتمطى ما شاء لها التاريخ وتشتعل ما شاءت لها الجغرافيا، وحجم الاضطراب يتزايد ومساحة المشاحة تتصاعد، والتدافع السياسي والشعبي يزداد سخونة مع انتشار العنف وحدة الاحتقان.
سينشر هذا المقال بعد يوم واحد من ثلاثين يونيو الذي لم تزل المعارضة المصرية وكثير من التيارات الشبابية تحشد له منذ عدة أشهر، والذي يتوقع له الجميع أن يكون يوماً حاشداً لا تأمل فيه المعارضة بفرض نفسها إلا بقدر ما تتخوف من جماعة laquo;الإخوان المسلمينraquo; الحاكمة بمصر. لقد استبقت هذا اليوم حملة laquo;تمردraquo; التي تقول بأنها جمعت ما يقارب إثنين وعشرين مليون توقيع من مواطنين مصريين يطالبون بعزل الرئيس laquo;الإخوانيraquo; محمد مرسي، والمعارضة تطالب بانتخابات رئاسية مبكرةٍ لتعديل الأوضاع السياسية في البلاد خاصة بعد الفشل الذريع، الذي منيت به حكومة laquo;الإخوانraquo; بعد عامٍ على تربعها على عرش السلطة.
الذي يمكن ملاحظته هو أن ثمة مستويات للتعامل laquo;الإخوانيraquo; مع الأزمة التي يواجهونها والاحتجاجات الكبرى التي تضيق عليهم الخناق يوماً بعد آخر، المستوى الأول هو مستوى الخطاب بحيث لا حديث لـlaquo;لإخوانraquo; ولا للجماعات الإسلامية المؤيدة لها يعلو فوق الحديث عن laquo;الشرعيةraquo;، والمقصود بها هنا هي شرعية laquo;صندوق الاقتراعraquo;، التي جاءت بجماعة laquo;الإخوان المسلمينraquo; إلى كرسي الحكم، والمستوى الآخر هو مستوى الفعل بحيث قامت الجماعة بتحريض عناصرها وكوادرها وبعض رموزها بالاحتشاد وتنظيم المظاهرات، وتخويف المعارضة بعبارات رنانة وخطب عصماء تفوح منها رائحة العنف والتهديد بالقتل والتخريب... وللمفارقة فإن هذا كله يتم تحت مسميات مناقضة من مثل laquo;لا للعنفraquo;! المستوى الثالث هو المستوى الآيديولوجي بحيث تستخدم الجماعة ورموزها الخطاب laquo;الإخوانيraquo; العتيد حيث الحديث عن الإسلام وتطبيق الشريعة والهجوم على خصوم laquo;الإخوانraquo; تحت مسميات فاقعة الأصولية والتطرف من مثل laquo;الكفارraquo; وlaquo;المنافقينraquo;.
من لا يستطيع التمييز بين هذه المستويات لن يستطيع فرز المشهد المصري الحالي وتقديم قراءة أقرب للصواب في توصيفه وتحليله، والخلط الذي تتبناه الجماعة بين هذه المستويات هو خلط متعمد يراد به تضليل الرأي العام عبر اللعب على كل الحبال.
صحيح أن حكم laquo;الإخوانraquo; فاشل، لكن صحيحا كذلك أن الفوضى حين تنشب أظفارها في بلدٍ وتستقر فيه لا يسهل على أحد انتشالها منه إلا بشق الأنفس هذا إذا استطاعت أن تخلق تياراً أو حزباً أو رمزاً كاريزمياً يكون قادراً على تحصيل laquo;الشرعيةraquo; السياسية والشعبية وقيادة البلاد إلى برّ الأمان. ولا تبدو مصر قريبةً من خلق أيٍ من هذا على الأقل في المدى المنظور.
لم يستطع laquo;الإخوان المسلمونraquo; أن يقنعوا أحداً بحيازتهم لرؤية كاملة لإنقاذ البلاد، بل على العكس فكل ما يصنعونه يصب في تدهور البلاد، فالاقتصاد المصري يتراجع وهو مهدد بالانهيار، وlaquo;الإخوانraquo; غير منشغلين بإعادته إلى جادة الصواب وإلا فهو لن يتعافى إلا عبر سنين قد تطول، والاستثمارات الأجنبية لا تجد في سياسات laquo;الإخوانraquo;، إلا ما يجبرها على الحذر والبقاء بعيداً، بل إن بعض المستثمرين المصريين أخذوا في نقل استثماراتهم خارج مصر، فرأس المال جبانٌ والبيئة في مصر مخيفةٌ.
من الغرائب أن رئيس دولةٍ بحجم مصر يكون أحد أولوياته في خطاب سياسي في لحظة ملتهبة أن يعدد أسماء البلطجية في المدن والأحياء.
ما يجري في بر مصر هو لحظة نادرة في التاريخ المصري الحديث، فلم تشهد البلاد انقساماً حاداً واستثنائياً على كافة المستويات كما تشهده هذه الأيام، فرئيس الدولة يهاجم القضاء ويتهم القضاة بالتزوير على رؤوس الأشهاد دون وقائع ولا أدلة ولا محاكمة عبر الطرق القضائية المعروفة، ويهاجم الإعلام بضراوة وميليشيات جماعته وأنصاره يخططون للهجوم على المدينة الإعلامية وملاحقة البرامج الفضائية ومطاردة الإعلاميين الأوسع شهرةً والذين يقدمون نقداً لاذعاً للنظام.
أحسب أن هذه المرحلة الحرجة لن تمر بسلامٍ وسيكون هناك دماء وقتلى وجرحى وهرج ومرجٌ كما هو التعبير التراثي المعروف، فالعامة والطغام والرعاع حسب التعبيرات التراثية القاسية في وصف الجماهير لن تسكت عما تعتقده حقاً ثورياً لها سلبتها إياه جماعة laquo;الإخوان المسلمينraquo; والتيارات الأصولية المؤيدة لها والمنخرطة في مشروعها، وسيكون شعارهم هو الشعار المشهور في كل الثورات والانتفاضات والاحتجاجات الكبرى وهو laquo;إتمام الثورةraquo; أو laquo;إكمال الثورةraquo;، وهو ما يرون أنه يجب أن يكون فعلاً مستمراً ودائماً حتى تحقق الثورة أهدافها، أما ماهي هذه الأهداف؟ ومن له الحق في تحديدها؟ فهو سؤال يحتوي على كل الشياطين التي تقبع دائماً في التفاصيل.
إذاً فإن laquo;إتمام الثورةraquo; كمفهوم تنطوي تحته شعارات متعددة يقف اليوم وجهاً لوجه في مقابل laquo;الشرعيةraquo; وlaquo;تطبيق الشريعةraquo; بحسب الفهم laquo;الإخوانيraquo;، وهو ما يرمز للمواجهة المستمرة والصراع الدائم بين laquo;مدنية الدولةraquo; كما تطرح التيارات المدنية على كافة مستوياتها وبين laquo;دينية الدولةraquo; كما ترغب وتسعى وتخطط التيارات الأصولية.
النظام laquo;الإخوانيraquo; الحاكم يرفع سيفاً مصلتاً على كل من يعارضونه بأنهم لا يعدون أن يكونوا laquo;فلولاًraquo; للنظام السابق، وهو يسعى كما صرح الرئيس مرسي أكثر من مرة أن يخلق laquo;محاكم ثوريةraquo; يستطيع من خلالها أن يعاقب كل معارضيه، وأن ينتقم من كل خصومه، وذلك بعد أن استعدى بشكل صارخ المؤسسة القضائية العتيدة والراسخة بمصر، وهو عاجزُ عن إقناع الشارع المصري والمواطن العادي بهذا العدو وlaquo;البعبعraquo; الذي يحتاجه ليضرب كل من يخالفه.
إذاً فقد حاول laquo;الإخوانraquo; خلق هذا laquo;البعبعraquo; داخلياً عبر مصطلح laquo;الفلولraquo;، وهم حين عجزوا عن ذلك تحوّلوا لمحاولة خلق هذا البعبع خارجياً فاتجه خطابهم وخطاب رموزهم إلى التهجم على بعض دول الخليج العربي وتحديداً دولة الإمارات العربية المتحدة، ولكنهم فشلوا في هذه المحاولة أيضاً فحجم التقدير والاحترام الذي تحظى به الإمارات لدى المواطن المصري العادي كبير وواسع، ولا يمكن لـlaquo;الإخوانraquo; أن يسيئوا إليه على الرغم من محاولاتهم اللاهثة وتصريحاتهم المؤذية.
أخيراً، ما يجري في مصر مؤلم ومؤذ، خصوصاً إن اشتملت أحداث الثلاثين من يونيو على صدامات دامية، وربما بعض العمليات التخريبية التي يراد بها تشويه الاحتجاجات على السلطة laquo;الإخوانيةraquo;، وسيبقى ليل مصر طويلاً للأسف الشديد وليس الصبح بقريب.
التعليقات