راشد فهد الراشد
لمصر مكانة متميزة في العالم العربي، هي مركز ثقله الاقتصادي والسياسي والمعرفي، ورئته التي يتنفس من خلالها، وقلبه النابض بالعنفوان والإباء والحس العروبي، إذا كانت مصر معافاة وتعيش تألقها التاريخي في جميع مضامين ومناحي حياتها فإن العالم العربي بخير ومساراته النهضوية سليمة تفضي إلى قمم العطاء والتأثير، وإذا اعتلّت مصر -لاسمح الله- وأصابها الوهن واستبدت بها الأوجاع والداءات فإن العالم العربي يتأثر بهذا، ويصيب تطلعاته خلل من نوع ما، ويتعثر في خطوه، ويدخل في تيه التخبطات والضياع في قراراته ومواقفه، ويصيبه العطب في كثير من مناحي حياته، وتنحسر تأثيراته في صناعة التوجه الأممي، وصياغة الواقع السياسي.
لمصر دورها الطليعي في قضايا التنوير والتحديث في العالم العربي، وولادة الأفكار الخلاقة في التأسيس الفكري والمعرفي، وتشكيل وعي الإنسان العربي بما يتناغم مع التحولات والمستجدات في العالم وعبوره إلى منتج الحداثة والعولمة، وإثراء العقل بما تنتجه البشرية من أفكار ورؤى وتوجهات لاستنهاض الأجيال العربية نحو السعي إلى امتلاك العلم، ومحاصرة التخلف والجهل والأمية، ولقد كان لرواد التنوير في مصر والعالم العربي أمثال أحمد لطفي السيد، وطه حسين، ورفاعة الطهطاوي، ومحمد عبده، وجميل صدقي الزهاوي، وعشرات غيرهم، كان لهم دور في التأسيس التنويري، وطرح الأفكار الإصلاحية والتجديدية، وتنقية الموروث الشعبي وثقافة السائد من الشوائب وتأويلات الخرافة، واستطاعوا أن يعبروا بالمفاهيم العربية إلى فضاءات معقلنة تنبذ الفاسد من التقاليد، أو ما هو لا يتوافق مع الحياة المعاصرة بما فيها من تغيرات وأفكار، إلى جانب اشتغالهم في إصلاح التعليم ومناهجه وأدوات ممارسته، والمناداة بتطوير وتفعيل مؤسسات المجتمع المدني لتكون منتجة ومؤثرة تواكب روح العصر، وتمتلك أدواته.
ماذا حدث لمصر حاضنة العروبة وهمومها وتطلعاتها..؟
ماذا جرى لمصر المشتغلة بالتنوير والحداثة، وتصدير المعرفة والوعي والثقافة..؟
حقائق الواقع المعاش، وقراءة ما يجري في الشارع المصري يشي بأن تغيراً هائلاً حدث في بنية المجتمع، ومؤسساته، وأنماط حياته وتفكيره، وأن عطباً في مكان ما، أو موقع من مواقع صناعة القرار أصاب مصر، فالأمية تفشت بشكل مخيف ومرعب، والبنى الاقتصادية تعاقبت عليها السياسات الفاشلة فأصابها الانهيار، ونخر فيها السوس، إلى جانب سوء البنى التحتية التي أصبح المواطن يعاني في حياته اليومية من ترديها، والتوجهات العروبية والقيادية والأدوار التاريخية قلّ وهجها تحت عذابات الفقر والبحث عن رغيف الخبز، فأصبح المجتمع ونخبه السياسية والاقتصادية والفكرية مهموماً بتفاصيل الحياة اليومية.
ماذا يحدث في الشارع المصري هذه الأيام..؟
إن هذه الاصطفافات، والخطابات المتشنجة، ومحاولات الإقصاء، ومصادرة الرأي، هي في مجملها وممارسات غيرها غريبة على مصر العروبة والتسامح والتنوير والمعرفة، ولا تحقق إلا مزيداً من الانهيارات والتفتتات الاقتصادية والاجتماعية، وإنهاك الناس بقسوة الظروف والحياة، وإشغالهم عن واجباتهم القومية ودور مصر في نضالات الأمة العربية ضد الداءات والأوجاع من تخلف وجهل ومرض وانحطاط ثقافي.
حفظ الله مصر من منطق التطرف وغاياته، وهوس السلطة بدون امتلاك الرؤى والبرامج والخطط لبناء نظام سياسي واقتصادي واجتماعي وتربوي يتماهى مع العصر ومنتجه.
التعليقات