جاسم بودي


رغم ان بعض المتدينين الإسرائيليين يتفوقون على كل مجانين الكرة الأرضية في سلوكياتهم، ورغم ان معتقداتهم أكثر تطرفا من أي معتقدات أخرى، ورغم انهم يؤمنون بان لا طاعة للرئيس الإسرائيلي أو رئيس وزرائه فوق طاعة الحاخام الذي يمثلهم وإلى حد ما يتوسط لهم مع الخالق حسب معتقداتهم، ورغم انهم مستعدون للقتل والاغتيال والتمثيل بالجثث استناداً إلى فتاوى الحاخام... رغم ذلك كله لم ألاحظ استنكارا لتوقيف الأجهزة القضائية والأمنية للحاخام الأكبر يونا متسغير للاشتباه في تورطه بقضايا رشوة واحتيال وخيانة أمانة وغسل أموال وربما قضايا أخلاقية أخرى مثل التحرش الجنسي.
بغض النظر عما ستؤول إليه التحقيقات، إلا ان القضية الأم مثار الضجة كلها، أساسها ان الحاخام حول جزءاً من الأموال التي تجبى باسم الدين أو الطائفة إلى جمعيات ومؤسسات تعود بالتبعية له أو لافراد من عائلته أو لمقربين منه... تبرعات من كل يهودي متدين وغير متدين، في إسرائيل وخارجها، تصل إلى الحاخام الأكبر لينفقها على الفقراء ويساعد بها المحتاجين لكنه يتصرف بها بطريقته الخاصة ويوظفها لخدمة موقعه في الحاخامية ومواقع المحظيين والموالين.
الحاخام الذي تسلم منصبه قبل عشر سنوات وواجه اتهاما بسرقة مئات آلاف الشياكل، برر موقفه بأن كل ما كان يقوم به متعارف عليه حتى ولو بدا غريباً بالنسبة إلى الأجهزة القضائية. فهو يتلقى الأموال ويضعها في مصرف باسم حساب التبرع المعلن، ثم ينقل جزءاً منها إلى حساب باسم وهمي في مصرف آخر، ثم يقوم بتحويلها إلى حسابات أخرى باسم افراد من عائلته ومقربين منه عبر عمليات سرية ومعقدة، ويجادل بأن بعض الوجهات التي تذهب إليها التبرعات تثق به وبأسلوبه. كما كشفت القضية تورط كثيرين من رؤساء الجمعيات الدينية الذين اتهموا بتلقي رشاوى من الحاخام الأكبر كان يرسلها عن طريق سائقه laquo;الأمينraquo; وبعض العاملين في مكتبه، وهؤلاء سيحفرون أيضاً أسماءهم في سجل قضايا الفساد التي طالما طالت رؤساء ووزراء وسياسيين إسرائيليين.
طبعا لا أكتب هذا الكلام من باب إعلام الإسرائيليين بما أعلمونا به هم، ولا لتنبيه اليهود إلى ضرورة ملاحقة تبرعاتهم ومعرفة الوجهة التي تذهب إليها، فهم أحرص شعوب الأرض على معرفة كل شيكل ينفقونه سواء دفعوه لشراء سلاح يقتلون به الفلسطينيين والعرب أو لمساعدة المحتاجين من الشرقيين أو الغربيين (السفارديم والاشكيناز)، انما أكتب لأنني لم أرصد أي تظاهرة أو تجمع أو حتى تصريح لمجموعة من اليهود الغربيين الذين ينتمي إليهم الحاخام الأكبر يتهم السلطة باضطهاد حقوقهم أو يتهم اليهود الشرقيين بأنهم من لفق التهم وأنهم خارجون عن الدين لأن بعضهم أيد التحقيق مع متسغير. لم أقرأ أن أحدهم شتم القضاء والقضاة أو هدد بتدفيع أجهزة الأمن ثمنا باهظا، ولم أسمع أن متدينين اشكيناز اعتبروا أن معركتهم الحقيقية هي مع اليهود السفارديم رغم الفروقات الاجتهادية الواسعة بين الطائفتين.
ثم لننظر إلى حالنا قليلا ونتمعن في هذا الأمر تحديداً. ماذا لو اكتشفنا في عالمنا العربي أو الإسلامي ان احد كبار الرموز الدينية المماثلة في المرتبة مع الحاخام متسغير استفاد من أموال التبرعات أو افاد أهله وعشيرته أو المقربين منه. يا سيدي لا أريد شيخا برتبة الحاخام الأكبر. شيخ عادي، طالب علم، أحد الذين ارتدوا العمامة قبل ان يكمل تخرجه حتى. من يجرؤ في السلطة على ان يقول له أين تذهب أموال المتبرعين؟ من يراقبها؟ من يجرؤ على ان يقول لـ laquo;فضيلتهraquo; أو laquo;سماحتهraquo; من أين لك هذا؟ كيف انتقلت من منزل صغير قبل العمامة إلى قصر عامر؟ كيف أصبح لك في كل مدينة موقع وفي كل قرية أنصار؟ ولماذا انتقلت العلاقة من علاقة بين مواطنين ورجل دين وعلم إلى علاقة موالاة سياسية ومذهبية حصنت الشيخ واعطته هالات أرضية وقدسية فقط لـ laquo;خدماتهraquo; التي يفترض انها في صلب واجبه؟
لنقل ان هناك شبهات في كيفية التصرف بأموال التبرعات أو اثباتات دامغة لاساءة التصرف وتنفيع الأهل والعشيرة والموالين، ولنتخيل ان السلطة - أي سلطة - أرادت التحقيق في هذه الجزئية تحديداً... ماذا يمكن ان يحدث؟ ستصبح السلطة منحازة أو علمانية أو ملحدة أو طائفية. ستكون قضية التبرعات laquo;غطاءraquo; لحملة محلية اقليمية كونية تشنها السلطة ضد الشيخ أو من يمثل، كما أنها laquo;خطة خبيثةraquo; من الطوائف الإسلامية الأخرى انحازت السلطة لها كون كل شيء في العالمين العربي والإسلامي صار اليوم خاضعا للتفسير المذهبي. وستخرج حشود غاضبة مؤيدة تحتل مقار الأمن وتهاجم دور القضاء، وربما امتد الأمر إلى الاشتباك مع موالين لشيخ آخر من طائفة أخرى اعقبه سقوط قتلى وجرحى.
وللعلم، فإننا هنا نتحدث فقط عن شبهة مالية يقوم بها بعض رجال الدين. لم نتحدث عن فتاوى الفتنة والاحتراب والتقاتل والانقسام وأشكال الفساد الأخرى وكلها في رأيي جرائم ومصائب تفوق بمراحل جريمة اختلاس أو تنفيع.
لم أقل أن علماء الدين المسلمين تحت المجهر فغالبيتهم تخاف الله سراً وعلناً في القول والممارسة، ولم أقل ان المتطرفين الإسرائيليين تحولوا إلى عقلاء لكنني أقول إن الخضوع للقانون لا يجب أن يستفز حتى أكثر المتطرفين جنونا، وان اعلاء شأن دولة القانون والمؤسسات والنزاهة والشفافية هو اعلاء لشأن العرب والمسلمين... إذا كانوا يبحثون فعلا عن مكان متقدم في عالم متقدم.
اكتفي بهذا القدر قبل أن اصبح أيضاً هدفا لفتاوى سريعة بتهمة الإساءة... ليس مهماً الإساءة لمن، المهم أن بعض الفتاوى تكون أحياناً جاهزة ومعلبة وتحت الطلب.