مالك التريكي

من أبرز ما أفرزته تحولات الأعوام الثلاثة الماضية، خاصة في مصر وتونس، القدرة الفائقة لدى كثير من الأفراد على إنتاج السلبية الاجتماعية والسياسية. لا نقول ممارستها بل إنتاجها. سلبية مركبة تصاعديا من العناصر التالية: الكراهية العمياء ضد أشخاص أو أطراف تم تحديدهم على أنهم أعداء، فقبول الظلم (بل والدعوة إليه) طالما أنه ضد هؤلاء الأعداء، ثم الإقامة عموما في الموقف المطمئن إلى أن أفضل دواء لمعالجة أخطاء الحاضر هو ارتكاب مزيد من خطايا الماضي.


هذا على مستوى الفعل. أما على مستوى الخطاب، وخاصة في شبكات التواصل الاجتماعي وفي مساحات التعليق على المقالات في المواقع الالكترونية، فإن هذه السلبية تتجلى عموما في كثير من منكر القول (الشتم أو الحط من قدر الآخرين) في أسوأ الحالات، وكثير من الثرثرة (القول النافل أو الذي لا علاقة له بالموضوع أصلا) في أفضلها.
صحيح أن تخبطات ما بعد ذهاب المستبد غير العادل (حيث أن كثيرين لم يعودوا يصدقون أن ما حدث كان ثورة أو انتفاضة شعبية)، وانسداد الآفاق بسبب رداءة النخب المتصدية للحكم وانهيار الدولة شبه التام حتى في أبسط مقوماتها، كلها عوامل تبث اليأس. ولكن شعوبنا التي ضحت كثيرا منذ بداية كفاحها ضد الاستعمار الأجنبي برهنت قبل مجرد ثلاثة أعوام أنها مفعمة بإرادة الحياة. لهذا فإن من أوكد واجباتنا أن ننظر دوما إلى أمور أوطاننا من مقتضى الإيجابية التاريخية التي تعبر عنها الآية الكريمة: lsquo;إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهمrsquo;. فقد كان في هذه الآية-المنهج من الطاقة الاجتماعية والسياسية الكامنة ما جعل نخبة الكفاح الوطني تستند عليها أوائل الثلاثينيات لإقناع الجماهير في تونس بألا إمكانية لتغيير الواقع نحو الأفضل إلا إذا اضطلع الأفراد أولا بواجب تغيير طرائقهم في التفكير والعمل تغييرا إيجابيا منتجا.
وإن كان لنا أن نعرب عن أمل في مستهل هذا العام، الذي لا معنى للتفاؤل به إلا بقدر قدرتنا على تغيير ما بأنفسنا، فهو أن نحاول الإحجام عن الاستمرار في إنتاج السلبية الاجتماعية والسياسية. إنها سلبية تؤجج نار البغضاء، وتنزع من كل شيء مذاقه وتسلبه دلالته. إذا كان لنا من واجب نحو أنفسنا وأوطاننا فهو واجب الإيجابية. إذ لا يمكن مطلقا بناء مجتمع قادر على التقدم إذا اختار كثير من أفراده الوقوع فريسة للسلبية المتمثلة في انعدام الثقة.
ذلك أن الثقة هي من أهم القيم التي انبنت عليها المجتمعات الرأسمالية، على ما بينها من تفاوت في درجات الديمقراطية. فقد أظهر التاريخ الحديث أن الثقة الاجتماعية ndash; ممثلة في الاحترام المتبادل بين المواطنين وثبات المؤسسات ووضوح القانون ndash; هي الشرط الأول للتقدم: أي تحقيق الازدهار الاقتصادي والتوازن الاجتماعي. ولكن الثقة قيمة شبه غائبة في الأدبيات السياسية العربية. ولهذا فإن فوكوياما الذي اشتهر منذ 1992 بكتاب lsquo;نهاية التاريخrsquo; قد نشر، بعد ذلك بثلاثة أعوام فقط، كتابا ضخما بعنوان lsquo;الثقة: الفضائل الاجتماعية وتحقيق الازدهارrsquo;، ولكنه لم يثر كبير اهتمام في البلاد العربية