توفيق رباحي

والعالم يفتح أبواب عام جديد، يجد الإنسان العربي والمسلم عموما، نفسه كمن يقف على تلة ينظر إلى أقصى ما يمكن أن يبلغه بصره بحثا عن سبب للتفاؤل، فلا يرى بصيص ضوء.
هذه الأمة، بمسلميها ومسيحييها، بمشرقها ومغربها، بفقرائها وأثريائها، بكبارها وصغارها، بنخبها وحثالتها غارقة في ظلام دامس مخيف.
وما يخيف أكثر، أنه باستثناء محاولات جد محدودة، لا تكاد هذه الأمة تفعل شيئا لمغادرة هذا الظلام أو حتى إشعال شمعة في ثناياه. كأنها تنعم به.
عانت وتعاني هذه الأمة من كل الابتلاءات، من الاستعمار ذات يوم إلى الاستقلال الآن، فاجتمعت لها كل أسباب التخلف، المادي والذهني.
من أسوأ ما تعانيه وأكثر ما يشدها للبقاء في حفرتها، كثرة الفتاوى الدينية الطيارة العابرة للقارات، والاستعداد الغريب لدى قطاع غير قليل من الناس للاستماع للوثوق بها، فتنزل على قلوبهم وأدمغتهم بمفعول السحر. الميسورة حياتهم تصلهم الفتاوى عن طريق الفضائيات ووسائط التواصل الإجتماعي الأخرى، أما أصحاب الحال المحدود ماديا ومعرفيا فتصلهم عن طريق الفضائيات لأنها لا تكلف شيئا.
لقد باتت الفتاوى مشكلة تعترض نهوض الشعوب في المنطقة العربية والإسلامية. تقف في وجه المبادرات الفردية وترفض الاجتهادات الشخصية وتغلق الأبواب حتى في وجه العلوم. لا شيء يفرّق المسلمين اليوم عن عصر الظلمات الذي مرت به أوروبا قبل النهضة الصناعية.
مصيبة هذه الأمة أن من هبّ ودبّ أصبح يفتي دينيا في كل شيء ويجد أذانا صاغية ومُصدّقة. كلٌ يفتي منطلقا من مصلحته ومكيّفا القرآن الكريم والأحاديث النبوية على فهمه وهواه.. من الإرهابي الذي يـُرسل مراهقا لتفجير نفسه وسط سوق مكتظة بالمدنيين العزّل، إلى ما دونه ممن يُجرّم مسلما هنـّأ جاره المسيحي بكلمة طيبة وابتسامة في أعياد الميلاد.
ومصيبتها الأخرى أن كل هذه الفتاوى تصدر في منطقة جاهزة للاقتتال، أجواؤها مشحونة بأسباب الحرب وأرضيتها خصبة لنمو الأحقاد وانتشارها.
المصيبة الثالثة التي لا تقل خطورة هي أن هذه الفتاوى لا تصدر منزهة بريئة من الجو الثقافي والسياسي الذي يعيش فيه lsquo;العالمrsquo; الذي يصدرها. ولا تصدر منزهة من صلته بحكام البلد الذي يعيش فيه ومصلحتهم الآنية والمستقبلية من الموضوع المطروح للإفتاء فيه وهل سيؤثر على كراسيهم أو عروشهم في وقت ما أم لا.
وهي، استطرادا، لا تصلح (إن صلحت من الاساس) لغير بيئتها، فلماذا يـُنتظر منها أن تنسحب على مسلم في جغرافيا أخرى وبيئة مختلفة تماما وعليه أن يستجيب لها ويعمل بها؟
الموضوع شديد الهشاشة والتأثر، إذ حتى لو اجتمع الفقهاء الأكثر ثقة وعلماً حول قضية ما، يكفي أن يصرخ lsquo;عالم ضالrsquo; في البرية برأي مخالف لكي يزرع الشك والتردد ويفسد على عموم المسلمين ما اجتمعت عليه الأغلبية.
عندما يقرأ المرء أن lsquo;عالماrsquo; مسلما أفتى بأن الترحم على نيلسون مانديلا والدعوة بالسلام لروحه كفرٌ صاحبه هالك في جهنم، لا يملك إلا أن يندب حظه على وجود ما يجمعه بهذا lsquo;العالمrsquo;.
وعندما يسمع سيدة من ورزازات في عمق صحراء المغرب تكلف نفسها عناء وثمن الاتصال الهاتفي بمفتٍ تلفزيوني في عُمان أو السعودية من أجل سؤال يحتاج فقط إلى إعمال العقل، يجب استنتاج أن هناك فعلا وضعا غير سوي.
كيف لأمة تختلف سنويا على بداية ونهاية شهر رمضان أن تتفق على مسائل أخرى أكثر تعقيدا ومرتبطة بتفاصيل خصوصيات حياة الناس ومحيطهم الصغير؟
عندما يموت خمسون مسلما في أفغانستان وعشرون في نيجيريا وثمانون في بنغلادش وعشرون في الصومال خلال مظاهرات احتجاج على كريكاتير رسمه رجل مغمور في الدنمارك ولم يره هؤلاء الذين تظاهروا ضده وماتوا بسببه، يجب إدراك أن هذه الأمة تعيش خللا عميقا على مستوى إدراك واستيعاب الأشياء. وفتش مرة أخرى عن الفتاوى السهلة المستسهلة.
عندما تكون ثلاثة أرباع الفتاوى متعلقة بالنساء وخصوصياتهن، فيجب البحث عن المشكلة في تركيبة الرجال (ربما بين أفخاذهم).
وكأن هذا كله لا يكفي، فأُضيفت على ضمائر بعض المسلمين وإيمانهم الآراء الدينية والفتاوى التي يصدرها منتسبون (هيكليا أو روحيا، لا يهم كثيرا) لتنظيم lsquo;القاعدةrsquo; وما شابهه من مجموعات متشددة لا يروقها إلا الكلام عن السيف والدماء المهدورة.
هاته الفتاوى الكثيرة والمستسهلة تشد الأمة الى الوراء. كل قضية جديدة يُفرض من حولها نقاش ديني ويـُكرّس الاعتقاد بأنها في حاجة لفتوى دينية. وبما أن الأمر مستباح لكل من ظن نفسه lsquo;عالماrsquo;، وبما أن الفتاوى لا تتحد، ولا يمكن أن تتحد، بحكم الاختلافات الطبيعية بين الناس، ولكونها مجرد آراء واجتهادات.. لهذه الاسباب تضيع القضية وسط جدل لا آخر له وينعكس سلبا على استقرار الناس نفسيا وروحيا.
أمثلة ذلك، الاقتراض العقاري للمسلمين الذين يعيشون في الغرب، التبرع بالأعضاء، التخصيب الاصطناعي وغيرها من القضايا التي استجدّت ولم يكن المسلمون، بعلمائهم وجُهّالهم مستعدين لها، ولا يمكن بحال من الأحوال الحكم عليها والإفتاء فيها كما لو أن اصحابها يعيشون في السنوات الأولى لهجرة النبي محمد (ص).
لا مفر لهذه الأمة من lsquo;هدنة دينيةrsquo; تستمر فترة معقولة تتيح للناس استجماع أفكارها والنظر للأشياء بدون ضغوط الفتاوى وبدون الخوف من ردود فعل اصحابها وغضبهم. مطلوب لجم هذه الفتاوى وكفّ أذاها. هذه الأمة محتاجة إلى سلام روحي فقدته منذ عقود.. بحاجة إلى مصدر واحد للإفتاء يكون منزها وفوق الجميع يثق به الجميع، يـُعمـَل بأرائه حتى لو لم تكن بالدقة التي ينشدها البعض، لا لشيء إلا لتجنب المزيد من الانقسام بين المسلمين.
قبل أي حديث عن مصالحة مع الغير ومقارعة الأمم الأخرى، هذه الأمة بحاجة إلى أن تستقر داخليا وتتصالح مع نفسها أولاً. وطريق الصلح مع الذات يبدأ من تراجع الفتاوى وصمت أصحابها.
دون هذا تكون هذه الأمة قد حكمت على نفسها بأسوأ مما هي فيه.