غسان العزي

في غضون عقد واحد من الزمن نجح quot;حزب العدالة والتنميةquot;، الذي وصل إلى السلطة في عام ،2002 في تغيير وجه تركيا التي وصلت إلى المركز السادس عشر في ترتيب الاقتصادات القوية في العالم وباتت عضواً في جماعة العشرين . واقتربت من تحقيق الهدف الذي وضعه وزير خارجيتها اللامع داوود أوغلو في تصفير المشكلات مع الجيران، بل إنها أضحت وسيطاً ضرورياً في عدد من الأزمات الإقليمية المستعصية . نجح هذا الحزب في استفتاء وستة انتخابات تشريعية ومحلية ورئاسية متتالية .كما أنه وضع حداً نهائياً لسيطرة الجيش على الحياة السياسية والقائمة منذ تأسيس تركيا المعاصرة على يد مصطفى كمال أتاتورك في عشرينيات القرن المنصرم .
كان من الطبيعي والحال هذه أن يجري الكلام عن quot;نموذجquot; تركي يمكن الاحتذاء به في الدول العربية التي نجحت فيها الثورات الشعبية في إسقاط النظام الاستبدادي القائم والتي لا تملك مشروعاِ لنظام بديل عنه . وحجة المراقبين الذين روّجوا لهذا المصطلح أن المجتمعات العربية إسلامية على غرار المجتمع التركي وتتقاسم معه تاريخاً طويلاً من الخلافة العثمانية، ثم إن أحزاباً إسلامية وصلت إلى السلطة بالاقتراع العام في تونس ومصر في وقت يتأهب نظراؤها للأمر نفسه في اليمن وليبيا وسوريا .


وينهض quot;النموذجquot; التركي على أعمدة أربعة هي العلمانية والإسلام والنجاح الاقتصادي والإشعاع الإقليمي . ويعني، بالنسبة إلى مَن يؤمن بوجوده يشكل وصفة جاهزة يمكن تطبيقها في بلدان الشرق الأوسط، في حين أن غير المقتنعين بالوصفات الجاهزة، يميزون مسار السياسات التركية الخاص منذ عام 1932 إلى اليوم عن الخصوصيات التاريخية والسياسية والاقتصادية والجيوبوليتيكية العربية، إضافة إلى حقيقة أن الديمقراطية التركية نفسها لم تبلغ بعد سن الرشد . ففي عام 2010 أصدرت المفوضية الأوروبية تقريراً يفند ممارسات حكومة أنقرة المناقضة لحقوق الإنسان من ضغوط مفرطة على الإعلام والإعلاميين وقضايا فساد مالي وسياسي وغيرها ناهيك عن القضية الكردية وتداعياتها .


ربما يسعى الأوروبيون، من وراء انتقاداتهم لسياسات تركيا المتعلقة بحقوق الإنسان، إلى تأخير انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي . ولكن تعبير quot;النموذجquot; هو من صنع الأوروبيين أنفسهم بهدف تسويقه لدى بلدان المنطقة، بعد أن فشل مشروع الشرق الأوسط الكبير الأمريكي، لحثها على القيام بإصلاحات سياسية واقتصادية لا تتناقض مع الممارسات الدينية المستظلة بنظام علماني . إنه نوع من الدعاية للعلمانية التي يخشاها إسلاميو العالم العربي كما ظهر لدى انتقاد بعضهم لأردوغان . خلال زيارته إلى القاهرة، في عام ،2011 بسبب فصل الدين عن الدولة في تركيا . فكرة quot;النموذجquot; سوّق لها الأوروبيون كطريقة غير مباشرة لتسويق نموذجهم هم والذين يحاولون فرضه على تركيا كشرط لانضمامها إلى الاتحاد الأوروبي . كذلك أسهم مثقفون عرب في تسويق هذه الفكرة بعد أن دخلت الثورات في طريق مجهول الأفق في سعيهم لإنارة هذه الطريق بمعالم وإيصالها إلى هدف .
لكن الإنصاف يقتضي التذكير بأن الاتراك أنفسهم لا يقدمون نظامهم كنموذج فالرئيس أردوغان أعلن في فبراير/شباط 2011: quot;نحن لا نحاول أن نكون نموذجاً لأحد، ولكن ربما مصدر إلهام ( . . .)، لأن تركيا برهنت بأن الإسلام والديمقراطية يمكن أن يتعايشا تماماًquot; . والحق أن النجاحات اللافتة التي حققها هذا البلد لم تأت نتيجة لوصفة فريدة خاصة أو معادلة لم يسبقه أحد إليها . الصين مثلاً نجحت في بناء نموذج خاص بها هو quot;اقتصاد السوق الاشتراكيquot; الذي يزاوج ما بين الدكتاتورية السياسية والليبرالية الاقتصادية . كذلك قدمت نموذج quot;البلد الواحد بنظامين سياسيين أو أكثرquot; منذ استعادتها لهونغ كونغ من بريطانيا في عام 1997 ولجزيرة ماكاو من البرتغال بعدها بعام .وهي تقدم هذا النموذج في سعي إلى استعادة تايوان في المستقبل بالإقناع والإغراء، رغم ذلك، فإن النموذج الصيني، على أهميته ونجاحاته المثبتة، ليس برسم التصدير كما أن أحداً لا يود استيراده .
في جميع الأحوال فإن quot;النموذجquot; التركي راح يخبو تدريجياً في السنتين المنصرمتين إلى أن فقد كل المؤمنين به . فبدلاً من quot;الصفر مشكلاتquot; تعاني السياسة الخارجية التركية اليوم مشكلات مع كل الجيران تقريباً . وقد دلت احتجاجات quot;جيزي باركquot; في ساحة تقسيم في اسطنبول في يونيو/حزيران الماضي عن وجود معارضة شعبية قوية لأردوغان، كما دلت ردود فعله على هذه الاحتجاجات عن ميول استبدادية لدى الرجل الذي ظن بأن السلطة باتت حكراً له مدى الحياة . وجاءت الطامة الكبرى في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي عندما كشفت فضائح الفساد عن تورط أقرب الوزراء إليه وأولادهم وربما ابنه نفسه، إضافة إلى حاكم المصرف المركزي . وإذا كان صحيحاً أن الفساد يضرب أكثر الدول ديمقراطية في العالم وبات ظاهرة اعتيادية في عالمنا، إلا أن سلوك أردوغان حيال ضباط الشرطة الكبار والسلطة القضائية ممثلة بكبار القضاة واتهامه لهم بالسير في ركاب مؤامرة يحيكها حليفه السابق فتح الله غولن من فيلادلفيا التي يقطنها منذ عام ،1999 يشبه سلوك الحكام الذين أسقطتهم الثورات العربية .
لقد حل تعبير quot;ربيع تركياquot; مكان quot;النموذج التركيquot; على يد بعض المراقبين رغم أن هذا الآخر فيه الكثير من المبالغة . لكن تبقى الكلمة الفصل في مستقبل أردوغان السياسي لاستحقاقين انتخابيين مهمين في مارس/آذار ويونيو/حزيران المقبلين .