القاهرة - أمينة خيري


دقت أجراس المنبهات بينما خيوط الصباح تصارع ذيول الفجر. عملية استيقاظ مبكر جماعية أعقبتها طلعات استطلاعية ومجسات إلكترونية وأخرى فضائية. تركيز بالغ في النشرات الإخبارية لتحسس الطريق، واستماع مرهف إلى النشرات الجوية لاختيار سمك المعطف، وتتبع أنثوي دقيق لكل دقة تكشف عن laquo;خبر عاجلraquo; أو ظهور مفاجئ للون الأحمر أسفل الشاشة معلناً ورود نبأ مباغت.

غرفة العمليات المقامة في المطبخ حيث النافذة المطلة الجارحة لكل شقق الجيران، والهاتف الأرضي المتصل بـ laquo;الست الكبيرةraquo; على مدار الساعة، والمحمول المطل على الصديقات في اللجان الفرعية والمقيمات خارج البلاد والوافدات من المحافظات حيث تصب الأخبار الطازجة والتطورات اللاحقة.

سيولة مرورية صباحية في وقت الذروة. نسب غياب مرتفعة للإجازات النسوية العرضية وأخرى مرضية وثالثة مموهة حيث توقيع الحضور والانصراف والتغيب في ما بينهما. نشاط زائد لباعة الأعلام الذين ترأسوا النواصي وتمركزوا في محيط لجان السيدات فهن الأجرأ في التعبير عن الوطنية، والأسرع في تخليص الموازنة من حمولتها الزائدة، والأقدر على تحويل ملل الانتظار إلى صالونات للفكر والنقاش وتعديل فلسفة الطابور من وسيلة للانتظار إلى آلية للحوار.

عمليات الاستطلاع النسائية الصباحية للأجواء أثبتت ان laquo;كله تمامraquo; و laquo;الطريق أمانraquo; فما كان منهن إلا أن نزلن اللجان مع كل الامتنان لما وجدنه من اهتمام ونظام واعتناء من جيش وشرطة وشعب مناهض لـ laquo;الإخوانraquo;. الطوابير تبدو طويلة لكنها خفيفة. فاللجان مقسمة، والأعداد موزعة، والخبرات متراكمة. كلمة السر laquo;السيسيraquo; فجرت المشاعر وفخخت الأحاسيس وأطلقت العنان لأحاديث الماضي القريب الذي وأده laquo;الإخوانraquo; وأزاح عنه الجيش الركام، فعاد كأن شيئاً لم يكن.

المشهد يكاد يكون مطابقاً لما كان في كل ما سبق من استفتاءات وانتخابات على مدار ثلاثة أعوام مضت، وذلك من حيث المحتوى النسائي المبهر والعنصر الإنساني المؤثر والتحدي الأنثوي المباغت، مع اختلاف الغاية. وإضافة إلى اسم laquo;السيسيraquo; تتكرر عبارات laquo;جئنا ننقذ مصرraquo; و laquo;إما نحن أو الإخوانraquo; ودائماً وأبداً أغنية laquo;تسلم الأياديraquo; بدل عبارات الشكر الموجهة من تلك السيدة المسنة التي يقدم لها جندي يد المساعدة أو تلك الجالسة على مقعد متحرك وضابط الجيش يدفعها. وبما ان الضابط كان يرتدي نظارة شمسية سوداء كتلك التي يرتديها الفريق أول عبدالفتاح السيسي، قالت له إحدى السيدات المسنات تحبباً: laquo;والنبي أنت السيسي الصغير. كلكم بالنسبة لنا السيسي. ربنا يحرسكم ويحميكم من ولاد الذينraquo;.

laquo;ولاد الذينraquo; و laquo;بنات الذينraquo; لم يظهروا، على الأقل بالعين المجردة، في طوابير أمس. السيدات الجالسات في شمس مدرسة laquo;فاطمة الزهراء الثانوية بناتraquo; انتظاراً لدورهن اجتررن ذكريات الماضي الأليم حين كانت الأخوات تدفعهن دفعاً لـ laquo;نعم من أجل الله والرسول (صلى الله عليه وسلم)raquo;، أو دعماً للرئيس المعزول محمد مرسي الذي laquo;يحمل الخير لمصر، ومشروع النهضةraquo; هذا laquo;الطائر ذي الجناحين والمؤخرةraquo;، بحسب وصف مرسي.

مؤخرة الطابور كانت هرجاً ومرجاً، لكنه هرج موسيقي ومرج غنائي. شابات محجبات ومعهن أمهاتهن وجاراتهن يرتدين الخمار قررن أن يقطعن شك الواقفات بيقين laquo;تسلم الأياديraquo; وهو ما أدى إلى تأجج حماسة السيدات بعدما أضفن كلمتين كيديتين laquo;رغم الأعاديraquo;، واعتلاء البسمات وجوه رجال الجيش والشرطة المؤمنين للجان والمنظمين للانتظار.

تسالي الانتظار كثيرة. وسبل النساء لتمضية الوقت عديدة، وإن بقيت وصفات الطهي ونصائح إزالة بقع السجاد بعيدة من دوائر حوار ستات مصر في طوابير استفتاء أمس. فلا صوت يعلو على صوت الدعاء على laquo;الإخوانraquo; والدعاء للسيسي، ولا طابور يخلو من تأكيد على عبور مصر الأكيد من كبوة laquo;الإخوانraquo; إلى laquo;صحوة المستقبلraquo;، ولا حلقة نقاش تبتعد عن تلخيص نقائص مرسي والإسهاب في مناقب السيسي.

ورغم ذلك ظلت مناقب الدستور الجاري التصويت عليه بعيدة من الحوار. قليلات فقط هن من تبحرن أو قرأن أو اطلعن على محتوى الأبواب ومكنون النصوص. الغالبية جاءت laquo;لإعلاء مصر على الجماعةraquo; و laquo;نصرة الجيش على التنظيمraquo; وإنقاذ مستقبلهن ومستقبل أبنائهن من قبضة الأخوة وسطوة الأخوات.

ورغم الغياب المظهري للأخوات من طوابير laquo;ستات مصرraquo; في اليوم الأول من الاستفتاء على مشروع الدستور المعدل، إلا إنهن تواجدن في أماكن أخرى لم تنفصل عن أجواء الدستور.

صحيح إنهن لم يصطففن في الطوابير، لكن منهن من اصطفت في طوابير اللجان الإلكترونية المطلوب منها نشر الإشاعات المعلوماتية وبث الفوضى العنكبوتية علّها ترهب من تبحث عن معلومة تدفعها إلى النزول إلى اللجنة أو تقنعها بالمكوث في البيت. laquo;صديقة أخبرتني بأن ساعة الصفر للهجوم على اللجان 12 ظهراًraquo;. وتمضي الثانية عشرة ظهراً ولا يجد جديد، فتحدث laquo;الأختraquo; حالتها laquo;الفايسبوكيةraquo;: laquo;صديقتي قالت لي إن ساعة الصفر ستكون في السادسة مساءًraquo;، وهكذا.

لكن laquo;ستات مصرraquo; أخذن على عاتقهن إعلان ساعة الصفر، وهي ساعة خروجهن من لجان الاستفتاء. زغاريد مجلجلة وأغنيات مفرحة وتصفيق حاد وتبادل تهاني وتشابك أيادي ابتهاجاً بملامح أمل جديد يعاود الظهور في ليل مصر laquo;الإخوانيraquo; البهيم. لكن ظل الليل يصارع من أجل البقاء والتغلب على الصباح رقصاً وطبلاً وزمراً كذلك. عدد من الأخوات ومجموعات من المتعاطفات ظهرن في أماكن متفرقة في محاولات عابثة لإشاعة الفوضى ونشر الذعر، حيث رقصن على أنغام laquo;مصر إسلاميةraquo; وغنين بعلو الصوت: laquo;الجيش والشرطة والشعب إيد وسخةraquo;. فطاردهن الأهالي وتعقبهن الصبية ليختفين في الشوارع الجانبية أملاً في عودة إلى دستور laquo;الإخوانraquo; وزمن laquo;الإخوانraquo; وكل من خان. لكن تظل العبرة بالطوابير والنصرة للبلاد من دون التنظيمات والعزة لستات مصر اللاتي رفعن الشعار المكتوب على السيارة الميكروباص عالياً: laquo;لو صباعك مش بمبي ماتقعدش جنبيraquo;.