& عماد المرزوقي


• الأمم المتحدة والمرصد السوري يعترفان بوجود قتلى مجهولين قد يزيد من عدد القتلى الحقيقي

• جثث كثيرة متحلّلة تبقى في العراء لأيام في مناطق الصراع مع «داعش» وأخرى تلقى في «مكبّات»

• الجثث المدفونة في مقابر جماعية تُطمس هويات أصحابها من دون أي إشارة إلى مكانها
فضيحة كبرى قد تتكشف بعد هدوء المدافع ودوي التفجيرات وصوت الرصاص في سورية والعراق. أو هي بالأحرى قد تكون مأساة يندى لها الجبين بدأت تتكشف بعض معالمها من خلال بعض الاشارات التي تضمنتها عبارات تكررت في آخر تقريرين لحصاد القتلى في سورية على سبيل المثال.

المأساة تتمثل في أن الكثير من السوريين والعراقيين ومن الجنسيات الأخرى من الذين يقاتلون في سورية والعراق فقدوا من دون أي دليل قاطع على وفاتهم أو وجود جثثهم أو مكان دفنهم. فقدوا الى الأبد. هؤلاء تعترف بهم ضمنيا منظمة الأمم المتحدة على سبيل المثال في تقريرها الأخير عن عدد ضحايا الصراع السوري حيث تعتبر أن أشخاصا كثيرين قد يكونون قتلوا ولم يتم توثيق وفاتهم لعدم وجود جثثهم. الا ان المرصد السوري لحقوق الانسان الذي يحدّث دوريا احصائيات قتلى الحرب الدائرة منذ أربعة أعوام يتوقع انه بالاضافة الى نحو 200 الف قتيل موثقة وفاتهم فهناك نحو 80 ألف شخص قد يكونون قتلوا وليس هناك اي وثيقة تؤكد وفاتهم ولا جثث لهم، فكيف تم التخلص من هذه الجثث المجهولة اذا؟

احصائية القتلى التي أعلنها أخيرا المرصد السوري لحقوق الانسان سبقتها احصائية اخرى اعلنتها منظمة الأمم المتحدة برصدها لنحو اكثر من 191 الف قتيل. لكن أرقامهما تبقى غير نهائية حسب تأكيدهما، فعدد القتلى الحقيقي أكبر من ذلك. واعتمادا على ذلك تكررت عبارات نفسها في تقريري كل من المرصد السوري ومنظمة الأمم المتحدة والتي توحي بشكل مباشر بوجود عدد من القتلى المجهولين غير الموثقين المصنفين ضمن المفقودين والمنسيين، حيث تواترت بشكل متكرر ولافت هذه العبارات «عدد القتلى الموثق هو أدنى بكثير من الحصيلة الفعلية للضحايا». ما يفيد أن هناك العديد من الضحايا قد يكون بالمئات أو بالآلاف ممن تم قتلهم لم تصل جثثهم الى الجهات المختصة كالمستشفيات أو المدافن لتوثيق وفاتهم، بل تم التخلص من هذه الجثث التي سقطت في ساحات المعارك أو في المناطق النائية بطرق مختلفة وثَّق بعضها من دون قصد عناصر تنظيم الدولة الاسلامية في الرقة.

تقارير مختلفة ذكرت أخيرا ان «وتيرة القتل زادت بسرعة في سورية والعراق في الفترة الأخيرة، وانه بسبب اعمال القتل الجماعي زادت حصيلة القتلى». لكن يبقى السؤال عن القتلى المجهولين اين اختفوا؟

عشرات الضحايا يسقطون يوميا في الحرب الدائرة في سورية والعراق ويتم التخلص من جثثهم ودفنها في مقابر مختلفة بعضها جماعية. لكن هناك أيضا عدد من ضحايا الصراع الدائر في سورية والعراق ولو كان بسيطا قد تسقط جثثهم في أماكن يشتد فيها الصراع - لا سيطرة لأحد طرفي النزاع عليها- مثل الاقتتال في منطقة كوباني السورية اليوم ،حيث يعتبر انتشال الجثث فيها مهمة صعبة للغاية على حد وصف تقارير عالمية.

ونتيجة لذلك بقيت جثث كثيرة لأيام ملقاة في الشوارع وقد تكون تحت الركام وبين الأحراش حتى بدأت في التحلل والتعفن وفق شهادات وثقتها تقارير نشرت بعضها صحيفة»غارديان» وصحيفة «نيويوركر» على سبيل المثال، ما قد ينتهي الأمر بهذه الجثث الى تشوه معالم أصحابها لتبقى جثثا مجهولة الهوية ومنها يتم دفنها سريعا خصوصا من قبل المقاتلين في مكبات تطمس فيها نهائيا كل المعالم الدالة على هوية الضحية. وفي مثل هذه المكبات يوجد الكثير من الجثث المجهولة والمنسية.

أحد مكبات الجثث التي يتخلص فيها عناصر تنظيم الدولة من جثث خصومه صورها سابقا بعض المنتمين لـ»داعش» عبر شريط فيديو سابق يظهر القاء جثث لأشخاص تم اعدامهم ورميهم في حفرة في احدى المناطق الصحراوية النائية في الرقة، وكانت المنطقة عبارة عن هضاب صحراوية تشقها أودية جافة. لكن رمي الجثث في حفر مجهولة قد لا يكون التفسير الوحيد لعدم توثيق العدد الحقيقي لقتلى الصراع الدموي المتمركز خصوصا في المنطقة الحدودية بين سورية والعراق بل هناك تفسير آخر يتمثل في ان الضحايا التي تسقط تطمس معالمها البشرية حتى قبل ان تدفن بفعل تحللها وتعفنها بسبب بقائها في اراضي المعارك وفي العراء دون انتشالها.

ومن خلال متابعة بعض مقاطع الفيديو التي يصورها بعض المقاتلين لمشاهد قتلهم لخصومهم تبين ان هناك جثثا متناثرة في العراء قد تبقى لأيام من دون ان ينتشلها احد، وقد لا يعثر عليها أحد خصوصا الضحايا التي تسقط في الأحراش الوعرة والأماكن التي نزح منها السكان وبقيت محميات للقتال والموت. تقارير مختلفة لوسائل اعلامية عالمية عبر مراسليها رصدت ايضا أثناء تغطيتها للحرب الدموية جثثا متحللة ومتعفنة فاحت رائحة العفن منها خصوصا في مناطق كوباني.

وكشف تقرير أخير لـ»الغارديان» حقيقة «انبعاث رائحة كريهة جدا في بعض مناطق الصراع المحتدم في كوباني ثبت في ما بعد حسب شهود عيان انها رائحة تحلل بعض الجثث التي سقطت ابان تبادل النيران او الاعدامات الجانبية وتركت في الشوارع او في مناطق النزاع لأيام ملقاة من دون أي تدخل لانتشالها وارسالها الى الطب الشرعي». وتشهد مدينة كوباني وفق تقرير «غارديان» شدا وجذبا بين طرفي الصراع ،القوات الكردية بمساندة دولية ومقاتلي «داعش» حيث لا سيطرة لطرف على كوباني بالكامل، وهذا ما قد يبرر بقاء بعض الجثث من هذا الطرف او ذاك لأيام من دون انتشالها نظرا لتربص الطرفين ببعضهما طوال الوقت في معظم اماكن كوباني التي تتخلها تضاريس جبلية صعبة وهو ما قد يقود الى استنتاج صعوبة انتشال بعض جثث القتلى فور موتهم.

وذكر تقرير نشرته صحيفة «هآرتس» الاسرائيلية نقلا عن بعض وكالات الأنباء ان «بعض الشهود العيان في كوباني اكد زيادة عدد الجثث المتحللة بفعل شدة عمليات الاقتتال اليومي وان هذه الجثث تحللت بســـبـــب عدم انتشالـــهــا لأيـــام عديدة».

وفي الاطار نفسه، أكد تقرير لصحيفة «نيويوركور» ان «الجثث المتعفنة في مناطق النزاع السورية والعراقية كثيرا ما تبقى لأيام بسبب شراسة القتال غير المتوقف وصعوبة التنقل وتدخل الاسعاف». وقد يتسبب انتشار الجثث المتحللة في مناطق الصراع الدموي في سورية والعراق مع دخول فصل الشتاء ظواهر وبائية قد تنتشر وتستفحل بين النازحين من مناطق الموت القريبة منهم. فتحلل الجثث من شأنه ان يسبب انتقال عدوى امراض بكتيرية كما حذرت منه منظمة الصحة العالمية.

مأساة المقتولين المجهولين ليست حكرا على السوريين والعراقيين ولكنها ضاربة في التاريخ حيث كانت أولى الحقائق التي انكشفت ابان الحرب العالمية الثانية ومثلت صدمة للرأي العام العالمي عدد المقابر الجماعية التي وجدت وعدد الرفات التي عثر عليها بين الجبال من دون معرفة هويتها، حيث أوضح تقرير لوكالة «أسوشيتيد برس» أنه «بعد الحرب العالمية الثانية، تم العثور على مئات الجثث دفنت في الغابات في بولندا. كما تم الكشف عن أكثر من 300 قتيل دفنوا في حفرة تدعى حفرة باربارا وهي اليوم مقبرة جماعية في سلوفينيا». واليوم يتكرر المشهد نفسه بعد أكثر من 70 عاما ليعيد الى الذاكرة بشاعة القتل وطمس هوية الضحية.

وبذلك فإن عائلات كثيرة قد لا تجد اليوم تفسيرا لفقدان احد ابنائها او ذويها في سورية والعراق. فالمحظوظون هم فقط من يتسلمون جثث ضحاياهم، وفي المقابل وفق تقارير منظمة الأمم المتحدة يبقى هناك من يقتلون ولا جثث لهم، وبالتالي فإن عائلات هؤلاء المفقودين لا تجد ما يدل على مكان دفن أبنائها أو جثثهم. وقد يذهب الضحايا الى الأبد من دون أي أثر يدل عليهم أو على المكان الذي دفنت فيه.

&