رغيد الصلح
تقف تونس على مشارف تطورات مهمة يتبلور في ضوئها مستقبل البلد السياسي . فبعد إنجاز الانتخابات الرئاسية بنجاح وفي مناخ سلمي وانتخابي سليم، تتأهب تونس للخروج من مرحلة الانتقال من الديمقراطية إلى ولوج مرحلة ترسيخها . تتميز هذه المرحلة بتحول العمل الديمقراطي إبانها إلى اللعبة الوحيدة في البلاد .
الخطوة الأولى التي تكرس ولوج تونس مرحلة ترسيخ الديمقراطية هي تشكيل الحكومة الجديدة . هذا الحدث سوف يحدد، إلى مدى بعيد، طبيعة النظام السياسي الجديد في ضوء ترسيم العلاقة بين التكتلات والأحزاب السياسية في البلاد وخاصة بين حزبي "نداء تونس" الذي حاز أكبر عدد المقاعد النيابية في الانتخابات العامة، و"حركة النهضة" التي حلت ثانياً بنفس المعيار . ويلوح في الأفق نموذجان للعلاقة بين الحزبين:
* النموذج الأول، هو التوافقي، أي أن يكون الحزبان تحالفاً سياسياً كبيراً فيما بينهما، وأن يشكلا معاً حكومة جديدة قد تضم، فضلاً عن وزراء من الحزبين في الوزارات السيادية والحساسة، وزراء مستقلين او حتى وزراء من أحزاب أخرى صغيرة . في هذه الحكومة سوف يضطلع الحزبان بدور قاطرة المؤسسة الحكومية وعصبها .
ومن الطبيعي أن يتشارك الحزبان في وضع البيان الوزاري وأن يحددا من خلاله أولويات الدولة وخيارات الحزبين المشتركة .
ان التوصل إلى الاتفاق على توزيع المناصب الحكومية وصياغة البيان الوزاري قد لا يكون سهلاً إذا ما أخذ بعين الاعتبار أن الحزبين لم يخرجا من الفراغ، ولكنهما يمثلان امتداداً لصراعات سابقة تخللت مرحلتي بورقيبة وبن علي، بل وحتى مرحلة الاستعمار الفرنسي . هذه الصراعات لا تشبه من حيث حدّتها وأبعادها الدينية والأثنية والاجتماعية الصراعات الموجودة في دول عربية أخرى . ولكن مع ذلك فإن تونس - وهذا شيء طبيعي - لا تخلو من التباينات والصراعات مثل التوتر الذي يطفو على سطح الأحداث أحياناً بين أبناء الجنوب وأبناء الساحل، بين المتأثرين بالثقافة الفرانكوفونية والمتأثرين بالثقافة العربية، بين أبناء المدن وأبناء الأرياف، بين الأثرياء وبين محدودي الدخل، وبين الأجيال المختلفة .
إن هذه التباينات ليست من القوة بحيث تطبع الحياة العامة بطابعها وتفرض نفسها بالعنف على كل مسار سياسي كما هو الامر اليوم في بعض الدول العربية . أي أن هذه العوامل والاختلافات، على أهميتها، لا تشكل عائقاً تستحيل معه إمكانية تشكيل حكم ائتلافي يضم الحزبين .
فهناك عوامل تجمع بينهما مثل النظرة إلى التنمية الاقتصادية والى دور الدولة فيها، والاهتمام بالتربية والتعليم وهو أمر كرسته الدولة البورقيبية وكذلك التوجهات العامة للنهضة . ويجمع بين الحزبين أيضاً حرص على الاستقرار وعلى التطور الطبيعي المتدرج وعلى النأي بتونس عن السياسات المغامرة والمتطرفة .
ويشكل هذا العامل الأخير حافزاً مهماً لكل من الحزبين على تلبية دعوات التعاون فيما بينهما، وعلى السعي لإرضاء الرأي العام التونسي الذي يقدر أهمية هذه الدعوة .
فالتوانسة يدركون أن الابتعاد عن التطرف والعنف والحرص على الاستقرار سوف يكونا مدخلاً رئيسياً لحل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة في البلاد .
النموذج الثاني، هو النموذج الأكثري .
والأخذ بهذا النموذج يقتضي أن يتنافس الحزبان، اي نداء تونس وحركة النهضة على الدخول في تحالفات تسمح لأي منهما بتشكيل حكومة ائتلافية . وفي الظروف الراهنة فإن "النداء" هو الأوفر حظاً في تأسيس مثل هذا التحالف . فهو الحزب الذي يحوز، كما قلنا أعلاه، أكبر عدد من المقاعد النيابية . وإذا تقرر الإبقاء على البرلمان التونسي الحالي، فإن هذا العامل سوف يلعب دوراً حاسماً في بناء التحالفات النيابية والسياسية .
ثم إن التفويض الشعبي "للنداء" تكرر وتكرس في الانتخابات الرئاسية بأغلبية ملحوظة . هذا يعني أنه من الصعب أن تتمكن حركة النهضة من تكوين تحالف نيابي ينتزع السبق الحكومي من يد "النداء" وأخذاً بعين الاعتبار المواقف السياسية لقيادة "النهضة"، فإنه من الأرجح أن تختار لنفسها دور زعامة المعارضة النيابية إذا ما فشلت مساعي الحكومة التوافقية .
بديهي أن حكومة حزب الأكثرية سوف تملك هامشاً أوسع من الحرية في تحديد أولوياتها وخياراتها من الحكومة الائتلافية . صحيح أنها لن تكون حكومة الحزب الواحد وأنه سوف يكون لها شركاء، ولكن هناك فرق بين أن تعقد الشراكة بين أحزاب متساوية من حيث حجمها النيابي تقريباً مثل النداء والنهضة، وبين أن تعقد الشراكة بين حزب رئيسي،، وبين أحزاب تضم عدداً محدوداً من النواب .
هذا لا يضير هذه الأحزاب الأخيرة ولا يقلل من مكانتها المعنوية والسياسية . لقد كان عدد نواب الحزب الديمقراطي الحر في ألمانيا قليلاً بالمقارنة مع الحزبين الرئيسيين الاشتراكي والمسيحي الديمقراطي، ولكن الحزب الديمقراطي الحر اكتسب دوراً مهماً في السياسة الألمانية بين السبعينات والتسعينات خصوصاً بسبب الاحترام الكبير الذي حازه زعيم الحزب هانز ديتريتش غينشر .
ومن المستطاع أن تكتسب أحزاب حليفة وصغيرة من حيث عدد النواب المكانة نفسها في الحياة السياسية التونسية .
رغم ذلك فإن الحزب الأكبر سوف يتمكن، في أغلب الاوقات، من الاضطلاع بدور "الشقيق" الأكبر في علاقته مع الأحزاب الأخرى الحليفة التي تملك عدداً قليلة من المقاعد النيابية . وهذه العلاقة قد تزود حزب الأكثرية الحكومية بميزة القدرة على التسريع بأعمال الحكومة وبإنجاز المشاريع قد لا تتمتع بها الحكومات التوافقية .
إن النموذج الأكثري لن يوفر مناخ الاستقرار نفسه الذي يوفره النموذج التوافقي . ولكن بالمقابل سوف يوفر النموذج الأكثري المناخ الملائم لقيام معارضة برلمانية فعالة ولاضطلاع المجلس النيابي بدوره الرقابي على النحو المطلوب . وفي النموذج الأكثري فإنه سوف تقل الفرص امام تحول حكومات المشاركة التي تبذل جهداً كبيراً في خدمة المواطنين إلى حكومات محاصصة تبذل جهداً كبيراً في خدمة النخبة الحاكمة وتلبية تطلعاتها ورغباتها الأنانية . على أنه، في نهاية المطاف، يبقى أن نجاح التجربة السياسية في ديمقراطية ناشئة مثل تونس يتوقف إلى حد بعيد على اعتصام النخبة الحاكمة بالفضائل القيادية والأخلاقية المناسبة .
التعليقات