مستقبل الدولة الوطنية في العالم العربي يواجه تهديدات استراتيجية كبيرة، أبرزها: أن الأسس المدنية التي قامت عليها هذه الدولة عبر مئة عام أصبحت اليوم معرضة للتقويض، وأخطرها: أن وجود هذه الدولة "القطرية" ضمن حدودها التاريخية المتوارثة أصبح مهدداً بالزوال، ميليشيات أيديولوجية متطرفة نبتت في مناطق مختلفة من الأرض العربية، تسعى إلى تفكيك أركان الدولة الوطنية، تنازعها السلطة وتشن حرباً ضدها، تقتل البشر نحراً وسحلاً، تسبي النساء وتخطف الأطفال وتنشر الخراب والدمار وتبث الرعب في الآمنين، تهجّر الطوائف الدينية والعرقية التي استوطنت المنطقة منذ العصور التاريخية السحيقة، وتستولي على منازلهم وممتلكاتهم وتجردهم من كل شيء.
مئات الألوف من العائلات أصبحت مشردة في العراق وسورية، وأكثر من مليون نازح تقطعت بهم السبل، الأيزيديون في جبل سنجار يحاصرهم الجوع والعطش، أطفالهم يموتون ونساؤهم أخذن سبايا ورجالهم يقتلون، تحت سمع وبصر المجتمع الدولي، النائبة الأيزيدية تستصرخ ضمائر العراقيين والعالم في البرلمان العراقي وقادة العراق مشغولون بالصراع على المحاصصة، كلامها يدمي القلب، ولا معين لهؤلاء المستضعفين إلا الله تعالى وحده، أخيراً تحركت المقاتلات الأميركية لدك مخابئ "داعش" حول الجبل.
في ليبيا حولت الميليشيات المتصارعة حياة الليبيين، الذين لم يهنؤوا بسقوط القذافي طويلاً، إلى جحيم لا يطاق، وفي اليمن تحارب "القاعدة" الجيش اليمني وتقتل الجنود بدم بارد، سعياً إلى تحويل محافظة حضرموت إلى "إمارة إسلامية"، وجماعة الحوثي جعلت الوضع الإنساني في عمران بائساً واضطر عشرات الألوف إلى النزوح، وما هو حاصل في هذه المناطق حاصل مثلها في أماكن مختلفة من العالم العربي.
هلا تساءلنا: لماذا هذا القتل الجماعي وتشريد مئات الألوف من الأسر؟ لماذا يحصل ما يحصل فقط عندنا؟! الجواب معروف: كل ذلك سعياً وراء هدف واحد تحلم به هذه الميليشيات، هو : إحياء دولة "الخلافة" هذه الدولة التي لا تعترف بالحدود القطرية وتسعى إلى إزالتها لأنها حسب زعمها من وضع المستعمرين سايكس– بيكو!
هذه الميليشيات التي توحشت وانتشرت كالوباء في الجسم العربي، وتجاوزت كل الثوابت الدينية والأخلاقية والإنسانية، وداست كل القيم والأعراف والمقدسات ومارست كل المحرمات، وتوسلت بالدين لهدم الدولة العربية وشرعنت للعنف الإرهابي باسم "الجهاد" فعمقت الكراهية والطائفية والانقسام والفرقة، وأسالت الدماء العربية بغزارة، أصحبت تشكل اليوم تهديداً كبيراً للدولة الوطنية وأمنها واستقرارها.
لقد حولت المنطقة إلى جحيم للطوائف الدينية والأقليات العرقية، وهي اليوم تمارس أكبر عملية "تطهير" ديني وعرقي تحت سمع وبصر العرب والمسلمين والمجتمع الدولي، لكن الأعظم والأخطر من أفعال هذه الجماعات ومجازرها، هو "الفكر العدمي" الذي تجسده وتروجه وتدعو له وتجتذب به شباب العرب.
دعونا نتساءل: ما الذي مكن لهذه العصابات الإجرامية أن تتمدد وتكتسح مناطق واسعة في العراق وسورية وليبيا واليمن؟! وما طبيعة هذا "الفكر العدمي" الذي اجتذب أعداداً متزايدة من الشباب العربي المسلم، ليكون وقوداً لمجازرها؟! وكيف أمكن لها أن تكون دولة وتجند شباب العرب في صفوفها وبصبح لها دعاة وخطباء يروجون لفكرها؟!
إنها "البيئات الحاضنة" المتعاطفة التي وفرت الدعم والمساندة والمأوى، وأعانت هذه الوحوش المفترسة على إسالة الدماء الغزيرة، وتهجير آلاف البشر من مناطقهم، فلولا "الحواضن الاجتماعية" التي ساندت هذه العصابات المتوحشة لما استطاعت اكتساح المدن والمحافظات بهذه السهولة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، لا ننسى دور "الأيديولوجيات" التي روجت، على مدى قرن، لفكرة الدولة الدينية، وعودة الخلافة، وبررت العنف الإرهابي باسم "الجهاد"، ومجدت "تفجير النفس"، واعتبرته "شهيداً"، كثير من الخطباء والدعاة والمنظرين يهاجمون اليوم "داعش" وهم الذين صنعوه وساهموا في دعمه بالأمس، عندما حرضوا الشباب المسلم على قتال "المحتل الأميركي" ومن تعاون معه في العراق!
في مقالة معبرة عن هذه "الثقافة البائسة" يقول الكاتب سعيد ناشد على لسان "البغدادي" الذي نصب نفسه "خليفة للمسلمين" وخاطبهم "الحمد لله تعالى الذي أعاد الخلافة للمسلمين بعد طول انتظار، والفضل في ذلك يعود لشيوخكم الأجلاء الذين علموكم بأن الخلافة من أعظم الفروض وأوجب الواجبات، لقد بشروا بها قرناً من الزمان، ورسخوها عقيدة في مئات الكتب والخطب والمناهج، وابتهلوا إلى المولى تعالى أن يحققها، ها أنا اليوم جئتكم بالبشرى، طلعت من كتبكم المنشورة ومن خطبكم المذاعة، فأنا ثمرة شجركم، وحصاد زرعكم، وقطاف حرثكم".
ولا أدل على ذلك من أن الشيخ عبدالمجيد الزنداني، خطب مؤخراً في الحشود الجماهيرية، مبشراً بأن عصر "الخلافة الإسلامية" الجديد قادم بحلول 2020 لتمتد من الصين شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً، وسط تهليل وتكبير المريدين والأنصار! ومن جاكرتا، يرسل "باعشير" المتطرف المعتقل، مبايعته للبغدادي، خليفة للمسلمين!
ما معنى كل ذلك؟ معناه: فشل خطاب التسامح والوسطية في تحصين الشباب تجاه الآفات والأوبئة الفكرية، رغم كل الميزانيات الضخمة المرصودة لمراكز الوسطية ودعاتها وخطبائها وكتبها وبرامجها! معناه أيضاً: فشل "الدولة الوطنية العربية" في ترسيخ "الهوية الوطنية" وتفعيل مفهوم "المواطنة" إطاراً جامعاً للمواطنين كافة، يعلو كل الانتماءات والولاءات الأخرى، معناه وهو الأخطر إخفاق كل التحصينات المعرفية والثقافية والدينية والسياسية، وعلى امتداد قرن كامل، في رفع وعي المجتمعات العربية تجاه مخاطر "الفكر المتطرف" في الداخل، بسبب انشغالها بالتهويل من مخاطر الخارج، معناه أيضاً: فشل الأحزاب القومية التي ملأت الفضاءات العربية بضجيج حناجرها بالشعارات الوطنية والقومية.
ختاماً: نعمة عظمى منّها المولى تعالى علينا، إذ نعيش مستقرين في أوطاننا، آمنين على أنفسنا وأولادنا وأسرنا وأموالنا، وهذا يستوجب الشكر، كما يستوجب علينا الحفاظ على دولنا القائمة، والعمل على تأمين مستقبلها، عبر:
1- مراجعة المفاصل الثقافية والاجتماعية والسياسية والدينية والتعليمية بما يحصن مجتمعاتنا ويرفع من مناعتها تجاه غزو "الفكر العدمي".
2- العمل على تقوية دور جيوشنا الوطنية ومساندتها ودعم مهمتها– تمويلاً وتسليحاً وتدريباً وإعلاماً- فهي التي تتحمل اليوم العبء الأكبر في مواجهة هذه العصابات الإجرامية المتوحشة.
&
التعليقات