هالة مصطفى

&

&
تتجه الأنظار كلها نحو التجربة التونسية الحالية لكون تونس هى مهد ثورات الربيع العربى، وأيضا بحكم التغييرات السريعة والجذرية التى مرت بها، وبدأت بفوز حزب حركة النهضة الإسلامى (المنتمى فكريا للإخوان المسلمين) فى أول انتخابات برلمانية أعقبت الثورة فى 2011 وانتهت بتراجعه فى الانتخابات التشريعية التالية لها والتى جرت فى أكتوبر الماضى قبل خسارته فى انتخابات الرئاسة الأخيرة التى فاز فيها باجى السبسى مؤسس حزب «نداء تونس» الذى لم يتجاوز عمره أكثر من عامين فى مواجهة منصف المرزوقى (الرئيس المؤقت) الذى راهنت عليه «النهضة» ومعها تيارات الإسلام السياسى، وهو نفس الحزب ـ حزب النداء ـ الذى حقق المركز الأول فى الانتخابات التشريعية .

والباجى ليس وجها جديدا فى الحياة السياسية التونسية فحضوره كان قويا منذ الخمسينيات، حيث شارك فى الحكومات المتعاقبة منذ حكم الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة (أول رئيس للجمهورية بعد الاستقلال من 1956 إلى 1987) وأيضا فى عهد الرئيس اللاحق له زين العابدين بن على الذى عزلته الثورة، وقد حظى هو وحزبه بتأييد العديد من القوى السياسية من ليبرالية ويسارية وقومية، رغم أنه ضم فى صفوفه أعضاء سابقين من الحزب الدستورى الحاكم الذى كان قد تم حله بعد الثورة بحكم قضائى .

من هنا فقد تختزل الصورة أحيانا فى أن الأمر لا يعدو سوى انتصارا لما يسمى بـ «الثورة المضادة»، ولكن المتأمل للمشهد التونسى والمتابع لمسار الصراع السياسى هناك وحالة الاستقطاب الشديدة التى صاحبته لابد وأن يصل إلى نتيجة أعمق من ذلك، فجوهر الصراع الدائر لم يعد بين قوى ثورية جديدة وأخرى قديمة بحيث نصبح أمام ثورة وثورة مضادة، و إنما هو صراع بين مشروعين سياسيين، الأول، يمثله الإسلام السياسى وتجسده حركة النهضة والجماعات الإسلامية الأخرى، والآخر حداثى مدنى بات السبسى رمزاً له، والمشروع الأخير مستمد ومستلهم أساسا من التجربة «البورقيبية» نسبة لبورقيبة مثلها مثل «الأتاتوركية» فى تركيا نسبة لمصطفى كمال أتاتورك مؤسس الدولة التركية الحديثة.

فالحبيب بورقيبة قد يُنظر إليه على أنه حاكم ديكتاتورى أقام نظام الحزب الواحد وكرس حكم الفرد لعقود من الزمان. وقد يكون ذلك صحيحا من الناحية الديمقراطية فهو لم يكن رئيسا ديمقراطيا ولكن ليست هذه هى كل القصة. فبجانب كونه زعيما وطنيا ناضل من أجل الاستقلال، فقد كان رائدا للتحديث .

الزاوية الأخيرة هى ما نتوقف عنده فى هذا المقال لأنها هى التى أعطت لتجربته خصوصيتها الشديدة فى المنطقة برمتها، فهو يكاد يكون الوحيد من بين الرؤساء فى العالم العربى الذى جعل التحديث بكل جوانبه الثقافية والاجتماعية والتعليمية، مشروعا متكاملا وأساسيا للدولة وكان أقرب لنموذج أتاتورك فى تركيا، حتى أنه كان يُكثر من الإشارة إليه فى خطبه، فانحاز للتعليم المدنى وطوره كيفاً وكمّاً محدثا نقلة نوعية مازالت أثرها باقية، وعمم المحاكم المدنية كجزء من إصلاح منظومة القضاء والقوانين والتشريعات، فضلا عن ارتقائه بحقوق المرأة سواء من الناحية السياسية أو الاجتماعية، وجسدتها مجلة «الأحوال الشخصية» التى يشار بها الى مجموعة القوانين التى صدرت فى عهده وتتعلق بالأسرة ووضع المرأة وحملت تغييرات جذرية فى الشكل التقليدى الذى كان سائدا.

ولم يكن لهذه التجربة أن تنجح وتترسخ فى المجتمع التونسى دون تحديث وإصلاح للخطاب الدينى الذى اعتمد فيه على رجال دين مستنيرين وإصلاحيين. وأدت هذه التجربة فى مجملها إلى ارتفاع ملحوظ فى درجة الوعى الثقافى وتقوية دعائم الطبقة الوسطى مصدر الحيوية السياسية فى أى مجتمع وركيزة الأحزاب والمجتمع المدنى والحاضنة الطبيعية لمشروع التحديث، ولاشك أنها هى التى لعبت الدور الأهم فى المواجهة الفكرية لمشروع الإسلام السياسى والأفكار الرجعية والمتطرفة التى سعت بعض تياراته لنشرها فى المجتمع. وقد حدث ذلك فى تونس بشكل سلس وفعّال بفضل إرث التجربة «البورقيبية» التى من الصعب محو آثرها مثلما كان من الصعب اقتلاع «الأتاتوركية» من تركيا.

لذلك فقد قدم السبسى نفسه فى الانتخابات كامتداد لـ «بورقيبة» أى كرمز للحفاظ على الهوية «الحديثة» للدولة، والأغلب أيضا أن التصويت لصالحه جاء لنفس السبب، فالأمر إذن لا يتعلق «ثورة مضادة» أو رجوع للخلف.

وبنفس المنطق يمكن قياس خطاب حزب «حركة النهضة الاسلامى» الذى يعتقد الكثيرون أنه مختلف عن الخطاب التقليدى لجماعة الاخوان المسلمين التى ينتمى إليها بشكل أو بآخر، وهو بالفعل كذلك، ولكن الاختلاف هنا جاء بحكم الواقع الثقافى والاجتماعى لتونس الذى كان من الصعب على أى حركة تنتمى إلى الإسلام السياسى تجاهله أو القفز عليه ، وهو ما جعل راشد الغنوشى زعيم «النهضة» يصرح مرارا بأن حركته تتفاعل مع الطابع المدنى الحديث للدولة والمجتمع، وأن التعايش بين الإسلاميين والعلمانيين من مختلف الاتجاهات هو أمر لا غنى عنه وأنه مع الحق فى الاختلاف. بعبارة أخرى كان خطاب حركة النهضة يسعى دوما للتأكيد على أنه لن ينقلب على المكتسبات «الحداثية» التى رسختها التجربة البورقيبية، ولاشك أنه بذلك تجاوز النهج التقليدى لجماعة الاخوان .

هذه التحولات فى الخطاب السياسى الاسلامى لحركة النهضة فى تونس تُذكّرنا بنفس التحولات التى أجراها أردوغان فى تركيا (رئيس حزب العدالة و التنمية الاسلامى) على خطابه السياسى متجاوزا الخطاب التقليدى لحزب أربكان (الرفاة) الذى انشق عليه، وقد سبق الغنوشى فى الإقرار بالعلمانية صراحة و تأكيد أنها لا تتعارض مع الدين، وهو الخطاب الذى كرره أثناء زيارته لمصر وقت حكم الاخوان وأثار غضبا فى أوساط الجماعة وقتئذ. والواقع أن أردوغان فى تركيا و من بعده الغنوشى فى تونس كانا يعبران وينطلقان من الواقع السائد فى بلديهما. فى هذا السياق فإن التطورات السياسية الأخيرة التى شهدتها تونس هى تصحيح لمسار الثورة، فالثورة كانت ضد الاستبداد والفساد والقمع الأمنى سعيا لنظام أكثر ديمقراطية وعدلا، ولم تكن ضد الدولة وهويتها التى أراد التونسيون من خلال صندوق الانتخابات الحفاظ عليها وحمايتها.

لكن هذا لا يعنى أن الصراع قد انتهى لأنه ليس مجرد صراع حول عملية التحول الديمقراطي، إنما سيظل صراعا بين المشروعين السياسيين المشار إليهما، التحديث الذى تتبناه القوى المدنية مقابل التقليدية التى تعبر عنها قوى الإسلام السياسى. وتجارب العالم المختلفة عبر التاريخ تؤكد أن التحديث هو أمر لازم و ضرورى للديمقراطية وليس العكس، أى أنه جزء لا يتجزأ من النضال من أجل إقامة نظام ديمقراطى. وهذا هو التحدى المطروح ليس فقط على تونس، لكن على كل دول «ثورات الربيع العربى».
&