مصطفى الفقى

&

&أعادت إلينا المصالحة المفاجئة بين «الولايات المتحدة الأمريكية» و«كوبا» بعض ذكريات الحرب الباردة وسنواتها الصعبة، فمازلنا نتذكر أزمة «خليج الخنازير» فى بداية ستينيات القرن الماضى ورئيس الوزراء الروسى «نيكيتاخروشوف» وهو يواجه خصمه حينذاك الرئيس الأمريكى «جون كيندي» بصورةٍ وضعت العالم على حافة الهاوية أو على شفا مواجهةٍ عسكرية وحرب حقيقية

تذكرنا كل ذلك معتقدين أن أجواء «الحرب الباردة» قد ولّت وأن آثارها قد زالت مع الزمن، إننى مازلت أتذكر ذلك الحدث الذى جرى عام 1962 عندما بدأ الحصار حول «كوبا» ووقفت البشرية على أطراف أصابعها تخشى من أن تتحوَّل «الحرب الباردة» إلى «حرب ساخنة» وعندما مرت الأزمة دون تراشق بالصواريخ كما توقع الكثيرون وقتها فإننا قد حسبنا أن عصر «الحرب الباردة» قد أصبح يحول دون وقوع «حرب عالمية ثالثة» وأن الأجواء الدولية مهيأة للحروب الإقليمية المحدودة دون الوصول إلى المواجهة الشاملة، ثم تحولت «الحرب الباردة» بعد سقوط حائط «برلين» وانهيار «الكتلة الشيوعية» بسقوط «الاتحاد السوفيتى السابق» حتى أصبح المناخ الدولى قادرًا على أن يطرح أفكارًا جديدة فى مقدمتها «العولمة» وصولاً إلى «الحرب على الإرهاب» مرورًا بنظرية «صراع الحضارات» وبذلك بدأنا مرحلة حوار «الأفكار» على الساحة الدولية إلى أن ظهرت «الحرب الباردة الاقتصادية» لتغطى الصراعات المكتومة حين حققت مباحثات «الجات» نتائجها ثم ظهرت «منظمة التجارة العالمية» إيذانًا بمرحلة جديدة قد يختلف فيها الحلفاء على ضفتى «الأطلنطي» حول المصالح المتضاربة والاقتصاديات المتنافسة، وتصوَّر معظم خبراء الشئون الدولية أننا دخلنا مرحلة التهدئة وخفوت حدة الصراعات إلى أن جاء على قمة «روسيا الاتحادية» رجل موسكو القوى «فلاديمير بوتين» الذى يحاول أن يعيد لبلاده مكانتها ويسترد لها هيبتها، وهنا نطرح الملاحظات الآتية:
أولاً: إن الزعامة الروسية فى «الكرملين» لرجل استخبارات سابق يرفض أن تفرض على بلاده سياسات لا تقبلها لذلك مضى الرجل فى أسلوب التحدى المباشر ليؤكد «للولايات المتحدة الأمريكية» وحلفائها أن «لروسيا الاتحادية» مجالاً حيويًا يتعيَّن احترامه والتوقف عن التدخل فى شئونه، ولقد حاول الغرب ـ وفى مقدمته الولايات المتحدة الأمريكية ـ توقيع عقوبات اقتصادية على «روسيا الاتحادية» باعتبار أن ذلك هو السلاح الأقوى فى تلك الظروف فجرت عملية تخفيض الأسعار العالمية للبترول فى محاولةٍ للإيقاع بالاقتصاد الروسى تأديبًا لحاكم «الكرملين» على مواقفه فى العامين الأخيرين، سواء فى «أوكرانيا» أو فى «شبه جزيرة القرم» أو غيرها.

ثانيًا: إن أوضاع «الشرق الأوسط» تبدو هى الأخرى قضية خلافية حادة بين «الروس» و«الأمريكيين» خصوصًا حول «المسألة السورية» والتى يرى فيها «بوتين» محاولة لاقتلاع آخر المعاقل الاستراتيجية للوجود الروسى فى المنطقة، إذ إن المعروف هو أن للروس قاعدة بحرية فى «اللاذقية» لذلك استخدمت «روسيا» وزنها الدولى وحق «الفيتو» فى «مجلس الأمن» لحماية الرئيس «بشار الأسد» ولكننا لا نظن أن ذلك أمر مطلق إذ إن لحرص «موسكو» على الرئيس «الأسد» حدودًا معينة ولاشك أن تطورات الموقف فى «الشرق الأوسط» وتداعياته الخطيرة قد أدت إلى قدر كبير من التوتر فى العلاقات الدولية عمومًا والإقليمية خصوصًا، كما أن ظهور التنظيمات الإرهابية الجديدة قد ترك بصمة كبيرة على بوادر الحرب الباردة التى بدأت تطل برأسها على العلاقات الدولية الحالية واضعين فى الاعتبار وجود أطرافٍ إقليمية ذات أدوار محددة فى «الشرق الأوسط» من أبرزها «إيران» الحليف الحالى لنظام «الأسد» و«تركيا» التى تعادى ذلك النظام بشدة، فضلاً عن الدولة العبرية «إسرائيل» التى ترقب المشهد كله فى سعادةٍ ورضا لأنها سوف تجنى ثماره ولو بعد حين.

ثالثًا: إن اختفاء حركة «عدم الانحياز» أو خفوت نغمتها على الأقل مع تراجع سياسة «الحياد الإيجابي» قد أدى إلى خلو الساحة الدولية من عناصر التهدئة والتلطيف، حيث أصبحنا أمام عالمٍ يتصارع فيه الأقوياء على أرض الضعفاء، ولم تعد هناك تحالفاتٌ سياسية تصلح لأن تكون تعبيرًا يمكن من خلاله لعب دورٍ كان من الممكن أن تمارسه دول الجنوب وهى ترقب الصراعات بين دول الشمال المتقدم على حساب المصالح الراهنة للدول الصغيرة، فلم يعد فى العالم المعاصر قيادات من الجنوب مثل تلك «النجوم اللامعة» التى كانت موجودة بعد منتصف القرن الماضي، لذلك فقد أصبح طبيعيًا أن نرقب غروب حالة السلم الدولى التى سيطرت على العالم المعاصر لعدة عقود ونرى أن «شهر العسل» الذى امتد بين «موسكو» و«واشنطن» لقرابة «ربع قرن» قد بدأ هو الآخر يلملم أوراقه ويتجه إلى مستقبلٍ حافل بعناصر المواجهة وأسباب التوتر.

رابعًا: إن التطور التكنولوجى والتميز المعلوماتى يمثلان نقلة نوعية تنعكس على شكل العلاقات الدولية المعاصرة، فلم تعد هناك حواجز تحول دون خروج الأخبار أوتداول المعلومات، لم يعد هناك «ستار حديدي» لم تعد التكنولوجيا الأمريكية قادرة على إيقاف تدفق الآراء والدراسات عند اللزوم، بالإضافة إلى وجود عامل «الحرب الالكترونية» ويكفى أن نتذكر أن «واشنطن» بتفوقها العلمى الكاسح قد عطلت كافة «شبكات المعلومات الالكترونية» فى «كوريا الشمالية» عقوبة لحاكمها بسبب تجاوزه فى انتقاد مؤسسات إعلامية أمريكية حاولت أن تكشف الغطاء عن تلك الدولة الغامضة والمارقة فى ذات الوقت، ولايقف تأثير التقدم التكنولوجى عند هذا الحد بل يتجاوزه ليصبح عنصرًا ضاغطًا على مراكز صنع القرار فى عالم اليوم.

.. هذه رؤية تحاول أن تكون كاشفة لاحتمالات المستقبل وما ينطوى عليه من تأثيراتٍ على روح العصر وأدواته .. إننى أرى فى الأفق القريب ملامح لعودةٍ محتملة للحرب الباردة التى كنَّا نتصوَّر أنها قد غادرت المسرح الدولى منذ أكثر من عقدين من الزمان!
&