&عبدالمحسن جمعة

& تجددت أزمتنا المستمرة مع العالم كمسلمين، عندما ضرب فقه العصور الغابرة، الذي شوّه الإسلام بأفكار القتل والسبي مرة أخرى، في باريس الأربعاء الماضي، بشكل بربري عبر عملية إرهابية أسفرت عن قتل صحافيين ورجال أمن. وهو الفكر الذي أطلقته في سبعينيات القرن الماضي بعض أنظمة المنطقة باسم الصحوة الإسلامية لمواجهة التطور الطبيعي للدولة الحديثة نحو الديمقراطية والمشاركة الشعبية، ورعته أيضاً آنذاك الاستخبارات البريطانية والأميركية لمواجهة الاتحاد السوفياتي ومحاربة عقيدته الشيوعية.
أزمتنا كمسلمين مع العصر والحداثة تضربنا في مقتل يومياً، ونرى أثرها المدمر من اليمن حتى حلب، ومن الموصل إلى طرابلس الغرب، من ذبح وتدمير وتجمّد للأطفال في خيامهم أو سحقهم تحت حطام منازلهم، بينما الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل سعداء بذلك، ويعتقدون أنهم عندما تركوا بشار الأسد يقصف شعبه بالأسلحة الكيماوية - وسكوت أوروبا عن ذلك - وإغراء إيران لتتورط أكثر في العالم العربي لأن مشروعها القومي يحقق نجاحات، كما ذكر نائب حرس الثورة الإيراني أن لديهم جيوشاً في أكثر من دولة عربية، وهو ما تريده واشنطن ولندن وتل أبيب، ليشعلوا بذلك حرب المئة عام بين المسلمين بكل طوائفهم، خاصة "السُّنة والشّيعة"، فيُستنزف جميع المسلمين ويقضوا على بعضهم البعض، وتحترق شعوبهم المتزمتة دينياً، بينما تبقى إسرائيل والغرب في مأمن. ذلك أضغاث أحلام، لأن تكلفة اللاجئين إلى أوروبا ونار الإرهاب المتفلت من المنطقة ستكلفهما كثيراً وبالدرجة الأولى الأوروبيون، ولن ينعموا أبداً بالأمن.
المجتمع الدولي سكت ثلاث سنوات على مأساة الشعب السوري، وكان يرسل إلى الأسد الرسائل السرية بأنه لن يسقط نظامه، بل شجعه ضمنياً على استخدام كل الأسلحة ضد شعبه، حتى فرط الإقليم السوري، وتحول قبل سنة إلى أرض الفوضى المناسبة لأقصى المتطرفين الإسلاميين (داعش) عمداً وعن سابق تخطيط، بعد أن أوغل الأسد وأعوانه قتلاً وتشريداً للأغلبية السُّنية السورية، التي تواصلت مع امتدادها الطبيعي في العراق، الذي سلم بدوره إلى النظام الأصولي في إيران، ليتكون نتيجة لذلك المارد الإرهابي الداعشي، الذي بشّرت به طهران ودمشق قبل نشوئه!
نحن اليوم نشارك فرنسا الجريحة مصابها، ونعلم أن الجالية المسلمة الكبيرة لديها تتطلب من باريس وجميع الأوروبيين ألا يلتحقوا بالمشروع الأميركي - البريطاني - الإسرائيلي في العالم العربي، لأنه مجازفة خطيرة، ولابد أن يسارعوا لإطفاء النار في سورية عبر فرض الحظر الجوي وتنحية الأسد والتنديد بالتدخل الإيراني في الدول العربية، وأن يشجبوا ما تفعله طهران في الأحواز، وكذلك جرائم "داعش" في العراق والشام.
وعلى الأوروبيين، كذلك، أن يسعوا لدمج المسلمين في مجتمعهم دون تمييز أو عزل لهم في ضواحي وحواشي المدن، وفي المقابل على المسلمين في أوروبا أن يستوعبوا قيم العصر والحرية، وأن يطلقوا مشروع تحديث الفقه والفكر الإسلاميين من أوروبا، كما فعل ابن رشد انطلاقاً من الأندلس، بعد أن أصبح العالم الإسلامي مكبلاً بقيود أعظم وأقسى من قيود العصور الوسطى.

***
الكلمة التي ارتجلها الرئيس عبدالفتاح السيسي عقب خطابه بمناسبة المولد النبوي في الأزهر الشريف، التي طالب فيها شيوخ الدين بثورة دينية لتطوير وتحديث الفكر والفقه الإسلاميين، هي أشجع وأخطر كلمة لزعيم عربي منذ عقود، وتؤشر بشكل واضح وجلي على أن الأمل بمواجهة فكر التطرف والسلفية الجهادية معقود حالياً على مصر، لأن معظم الدول الإسلامية الأخرى أصبحت في حالة ارتباط وتشابك لنظمها السياسية مع التيارات الإسلامية، كما أن عملية صبغ مجتمعاتها بالفكر الأصولي المتشدد وصلت لمراحل متقدمة جداً في أغلبية الدول العربية يصعب أن تنفك منها، لذا على العالم أجمع أن يقدم الدعم والمساندة القصوى لمصر بقيادتها ونظامها الحاليين.