مطاع صفدي
مصطلح «الأمبريالية « شعار فضفاض كان يلبس كل ظاهرة طغيان كونية. وقد حمله الغرب، وأمريكا خاصة، طيلة عصر ازدهار الحركات التحريرية للعالم الثالث. أما في أيامنا الراهنة فقد تعدى المصطلح مُوطنهُ الأصلي في أوربا وأمريكا. هنالك دول جديدة صاعدة إلى معارج القوة. وبعضها لا يضيره أن يُنعت بالأمبريالية الجديدة، أو الإقليمية والفرعية. بل إن هذا البعض مصمم على اتباع استراتيجية التفرد بامتيازات معينة تستفز دولاً أخرى. بل يمكن القول أن الأمبريالية تعني إجبار الآخرين على الاعتراف بامتيازاتها، وبالتالي منحتها درجة التفوق بما يسمح لها التمتع بامتيازات تتجاوز قليلاً أو كثيراً حدود مصالحها الأصلية.
عالمنا المعاصر حافل في خارطته السياسية الحالية بالشروط المولدة موضوعياً لتعدد الأمبرياليات، تلك التي قد نميزها بخاصية الفرعية أو الإقليمية كلها نفرقها عن نموذج الأمبريالية الاحتكارية التي لا تقبل لذاتها بالأقل من حدود العالم كإطار لجغرافيتها. هذا الصنف من فرط النفوذ لدولة عادية، متوسطة الحجم في مكانها وفي عدد سكانها، قد يستشعر بفيض من إمكانية القوة المدنية أو العسكرية، أو منهما معاً، ما يجعله يتطلع إلى جواره من الدول المحيطة، فيعتبرها كضواح قابلة للاندماج تحت سلطان هيكله هو عينه؛ غير أن هذه الفئة الصاعدة من الأمبرياليات الفرعية لن تكون ساعيةً عملياً إلى اندماج الأغراب في جسدها القومي. فالعلاقة الممكنة مع (الأجسام) الغريبة متناسبة مع معايير معادلات القوة. إنها العلاقة المشتقة من فعالية تسلط القطب الأقوى على الآخر الأضعف؛ هذا مع العلم أن التسلط لا يتوقف على فوارق الإمكانيات بين الدولتين فحسب، فالدولة الأمبريالية ليست هي المتسلطة وحدها لكنها هي ومجتمعها معها يمارسان يومياً تمارين التسلط التفصيلي على دول الإقليم المحيط ومجتمعاته.
حينما شاع قليلاً مصطلحُ الأمبريالية الفرعية لم يكن في حسبان أحد أنه سوف يكون عنواناً لفصل جديد في النظرية الاستراتيجية، لكنه ربما غدا تعبيراً عن واقع سياسي إنساني ومادي وليس عسكرياً فحسب. فمن فُجائيات «الربيع العربي» المأزوم. أنه، وهو الحاضن لانحرافات وأهوال غير متوقعة، أنتج كذلك صيرورة جديدة للاستراتيجيا الدولية، إنها الأمبريالية الفرعية النابعة في إقليم واحد، أو المتعددة في أقاليم مختلفة. فإنه في سياق هذا الربيع المأزوم تكشّفت أقاليم العرب وجوارها الإسلامي عن بروز ثلاث قوميات كبرى، متطلعة إلى السيطرة جيوسياسياً وذلك بفضل فوائض من النفوذ فرضت صيغاً من توازنات للقوة جديدة واستثنائية.
حاولت هذه القوميات الثلاث أن تلعب أدوارها عبر السيطرة على قيادة المبادرات السياسية الموجهة للمنطقة العربية ومحيطها الإسلامي. كانت أولاً القومية العربية رائدة في تأسيس حركة التحرر الوطني لأقطار العرب المستعمرة بجملتها، فخاضت جميعها معارك استقلالها الوطني ونجحت في الخروج من عصر الوصايات الأجنبية لكنها تخلّفت عن مشروع الاستقلال القومي الشامل في ظل دولة وحدوية كبرى؛ إذ كأن بعضها يفضل الحراك الرأسي على أساس التفاضل في القوى والإمكانيات، مهملاً جدلية العلاقات الأفقية وعلى سوية واحدة، سواء داخل مؤسساته القطرية، أو ما بين قطريات دوله عامة. كانت النزعة التسلطية الفردانية سيدة الأفعال والأحكام في كل شأن عمومي. فالقطريات أغلقت شرانقها على مجتمعاتها، كما أغلقت الفئات الحاكمة نوافذها ضداً على شعوبها.
ولكن عندما انفجرت زلازل الربيع أخيراً كانت النهضة العربية، قد تدهورت معظم طاقاتها الأولى في صراع الأضداد العقيمة مابين أقطابها. كان إرهاب كل نظام قطري بنتائجه المدمرة، عاملاً موضوعياً في تغذية الإحباط الأخلاقي إزاء عقيدة النهضة والثقة بأهدافها.
والحقيقة، كان الربيع العربي ثورة على الاحباط الشعبي برموزه ووقائعه ومآلاته الكارثية، كان يعلن رفضه المصيري لمحصول عصر نهضوي عانى من انقلاب مُـثُل الحرية والمساواة والتقدم إلى أسوأ أعطالها القروسطية. ومن ديكتاتورية الفساد الكلي، الفردي والجمعي، إلى مكافأة العنف السياسي، وذلك بإعادة تشكيله في صورة نظام للأنظمة الحاكمة الممكنة وحدها، أي كإمبريالية محمية بقوى وطنية من ضحاياها عينهم.
لم تكن القومية العربية خلال تجربتها النهضوية، طامحة إلى جعل وحدتها السياسية وسيلةَ سيطرةٍ، تمكّنها من فرض نفوذها على سواها من شعوب المنطقة، في حين أن القوميتين الفارسية والتركية جنحتا سريعاً إلى سياسة (مناطق النفوذ).
فكل منهما نظرت إلى محيطها العربي كما لو كان ساحة مفتوحة للغزاة من كل صنف، حتي لو كانوا من أقرب أندادها ورفاقها التاريخيين. فالخارطة (الشرق أوسطية) غاصّة اليوم بحروب ونزاعات بين الأطراف الكبار للعائلة الإسلامية الصانعة طيلة قرون لحضارتها الواحدة المشتركة. فإذا كان العرب هم المستهدفين أولاً في استقلالهم السياسي والعقائدي والاقتصادي من قبل الجارين الفارسي والتركي، فقد كان هؤلاء العرب إبان نهضتهم المغدورة، يستهدفون الغزو الإسرائيلي ومن وراءه غزاة الاستعمار المتجددين، حينما أعلن جمال عبد الناصر قيام الجمهورية العربية المتحدة من دمشق، في ربيع عام 1958، فقد هبّت أمم العالم الثالث مطالبة بالالتحاق بهذه الجمهورية، وكان المحيط الإسلامي خاصة يشرع في تنظيم حراكه الثوري من أجل اللحاق بالمشروع الجمهوري الجديد القائم ما بين القاهرة ودمشق، لم تكن ثورة الوحدة ذات نزعة تحريفية أو تجريدية لاسلام المنطقة، بل كانت حركة تحرير لمظلومي هذه الأمم. ليس فخراً لبعض رموز الخمينية في طهران أن تكون حدود بلادهم إيران قد جاوزت العراق وسوريا وصولاً إلى لبنان وشاطئ المتوسط. هذا الفخر يتبجح به زعماء متنفذون من نظام حاكم بأمره لبلده الكبير، لكنه أضحى فجأة طامعاً بأوطان الجيران الأقربين.. هؤلاء الرموز من نوع القادة (الفاتحين) في القرن الواحد والعشرين. فلا غرابة أن يجد زعيم الإمبريالية الكبرى في عالم اليوم، الرئيس أوباما، بلداً (إسلامياً) كإيران حافلاً تاريخه المعاصر بمعارك التحرر من طغاة العصر، لكنه عندما أنجز استقلاله تحوّل فجأة إلى مشروع غاصب جديد لاستقلالات الآخرين من رفاق تاريخه عينه.
أوباما سعيد حقاً، عندما يعثر على واحد من أعمدة ثورات التاريخ المعاصر، على بلد رافع لشعار الثورة على كل مظلومية للإنسانية البائسة.. هذا البلد عينه يرشّح نفسه لمهمة الاضطلاع بمسؤولية الإمبريالية الإقليمية، بصفتها الوكيلة المجازة من قبل زعامة الإمبريالية العالمية، كيما تمارس عنها كل أشغالها المعهودة إزاء مظلومي المشرق ودوائره المنداحة حوله. فهل وكالة بعض الخمينية سوف تغير أهم خطوط التوازن والتصالب في معالم الجبهات المفتوحة في أنحاء عربية من شرقي المتوسط وجنوبه.
إسرائيل لم يُلْغ انتدابُها بعدٌ لدور الامبريالية الفرعية في المنطقة، أو أنها أمست موشكة على الاستقالة أو الإقالة ما أن يغدو (بعض) نظام الملالي بديلاً جاهزاً عنها… أو ربما شريكاً مضارباً عليها، وذلك بحسب توصيفه التجاري؟
التعليقات