يوسف الديني

هناك رف للإرهابيين في دولاب الأفكار الرائجة مجتمعيا يأخذون منه العذر الملائم للتغطية وتبرير كل عملية يقومون بها، ولا شك أن ملف الإساءة للأديان ورموزها واحد من أكثر القضايا التي ينفذ من خلالها المتطرفون مهما طال التوقيت ما دام أن الرهان على الآثار المترتبة على العمليات وبالتالي خلط الأوراق لترحيل مشكلة أزمة الإرهاب إلى فتح ملفات وقضايا مصاحبة له كالإسلاموفوبيا والاندماج الإسلامي في المجتمعات الغربية وملف الحقوق المدنية وحرية الرأي والتعبير.. إلى آخر المصفوفات التي تبرز للسطح من جديد مع كل حادثة إرهابية مؤكدة على أن الحرب على الإرهاب لا يمكن أن تتجزأ وأن فهم العلاقة بين الدين والواقع أكبر من أن يختزل في «ذئاب معزولة» كما وصف وزير الداخلية الفرنسي بذكاء الوضع الجديد للإرهاب الأوروبي.


الذئاب المعزولة ليست بحاجة منذ الآن للارتباط الهرمي التنظيمي بتنظيم «القاعدة في جزيرة العرب» الذي تبنى القضية وعينه على «داعش» أكثر من أي شيء آخر، فهو أيضا مثل المسلمين والمعتدلين والساسة يعيش فترة زمنية صعبة لإنتاج هوية جديدة توائم انهيار المجتمعات العربية على المستوى الثقافي والفكري في عالم ما بعد الربيع العربي وانبعاث الإرهاب الجديد بخلاياه النائمة وذئابه المعزولة.


مجلس الشيوخ الفرنسي صادق على قانون مكافحة الإرهاب المقترح من وزير داخليته برنار كازنوف من أجل قطع الطريق أمام أولئك الذين يرغبون في الالتحاق بجبهات قتالية في سوريا أو في العراق أو في أماكن قتال أخرى، وهذه خطوة مهمة على المستوى الأمني لكنها غير كافية لأن الإرهاب اليوم مقطوع الصلة عن علائق تنظيمية عابرة للقارات، بات من السهل الارتباط بأي مجموعة محلية عبر نمطين؛ نمط مصدر التلقي على الواقع وتتصدر المساجد والكانتونات الخاصة المشهد لا سيما أن إهمال مصادر التلقي للمسلمين في الغرب قاد إلى تفريخ الكثير من المساجد والمصليات والمراكز الإسلامية الخارجة عن سيطرة الدولة، إضافة إلى عدم انتظام المسلمين كباقي الكتل والمجموعات الدينية تحت إطار خاص بغية اندماجهم، وهو الأمر الذي حدا لخلق حالة فراغ مفاهيمي كبرى، ولك أن تتخيل أن المنتجات التي يقرأها المسلم المتطرف باللغة الفرنسية حاضرة بقوة في مواقع التواصل والمواقع المختلفة وهي في أغلبها ترجمات لمجلات وبيانات «القاعدة» والكتب التحريضية لإعلام التيار المتشدد، وبالتالي هناك ثقافة مصنوعة في الخارج لواقع فرنسي معقد تؤدي في الغالب إلى تكون جيل من الفرنسيين بثقافة إرهابية خالصة دون مؤثرات تراتبية أو تنظيمية قد تساعد في تعقب الأفراد المتصلين بتنظيمات خارجية، وإن كان هذا النوع من التعقب بات عسيرا مع ولادة أجيال جديدة من المؤهلين للتطرف ممن لا وجود لهم في قوائم المطلوبين السابقة.
التصعيد في قانون مكافحة الإرهاب وصل إلى منع أي مواطن يعيش على التراب الفرنسي من مغادرة البلاد في حال كان هناك شك في إمكانية انضمامه إلى جماعات متشددة ويشمل 2000 شخصية مشتبه فيها، وهو رقم ضئيل جدا إذا ما قارناه بحجم التمدد للتيارات العنفية المسلحة في فرنسا.


الإجراء الوقائي هذا مفيد لكنه غير كاف لأنه يمنع من تصدير الإرهاب، لكنه لا يضمن عدم ارتداده إلى الداخل، فالمتتبع لسير وخط حياة العناصر الإرهابية الجديدة التي تخضع لطريقة تفكير وتجنيد مختلفة تماما، يجد أن تبني الفكر المتطرف انبثق من الداخل عبر التجنيد المباشر أو الإنترنت، وأن العلائق بمناطق التوتر عادة ما تمر بطرف ثالث كتركيا أو البلدان الأصلية للمهاجرين للتمويه على خط سير الرحلة، كما أن أعمار المشاركين وخلفياتهم عادة لا توحي بأي صلات خارجية وبالتالي فـ«الذئاب المعزولة» تظل كذلك حتى تتجدد فرصة للانقضاض على أحد الأهداف المحتملة ثم ترك المجال لتنظيمات خارجية للاستفادة من الحدث وبالتالي توتير وتصعيد حالة العنف إلى أقصاها باعتبار أن ما يطال أي منطقة في أوروبا يهدد دول الاتحاد الأوروبي كافة بسبب انفتاح الحدود وتداخلها.


رحيل الرموز الأساسية لـ«القاعدة» وتراجع شعبية الظواهري يدفعان بولادة تيارات جديدة تقتبس إلهامها الأوروبي والغربي من شخصية العولقي، فسعيد وشريف كواشي وفقا لأحد شهود العيان كانا يصيحان في مكان حادث إطلاق النار «أخبروا وسائل الإعلام أن هذا هو تنظيم القاعدة في اليمن»، ومن ثم أخبرا سائق السيارة التي اختطفاها أن هجومهما كان انتقاما لمقتل السيد العولقي.


النقطة الحاسمة أيضا في الارتباط بتنظيم القاعدة في اليمن الذي سيعيد الأمل من جديد لأنصار «القاعدة» المتشككين في موقفهم من «داعش» إلى إعادة تقديم «القاعدة» نفسها حامية للقضايا الكبرى ومنها حماية المقدسات بينما سيزداد التشكيك في أهداف «داعش» غير بناء الدولة واستغلال التناقضات الاستخباراتية ومواقف دول المنطقة من الحالة السورية دون أن تهتم بنقل معركتها إلى الخارج.


هل فشلت الاستخبارات الفرنسية المسنودة بخبرة كبيرة في التعامل مع مجموعات العنف الأوروبية من أصول مغاربية وهي الأكثر قدرة وتدريبا وخبرة من بين كل المجموعات القتالية في التاريخ الحديث؟ من الصعب قول ذلك إلا أن الإرهابيين هم خير من يستغل ثغرات حماية حقوق الأفراد وأيضا صلف الأحزاب السياسية الشيوعية - يا للمفارقة - السند الحقوقي الأهم في مناكفة السلطات لتمرير أي قوانين لمكافحة الإرهاب على حساب حقوق الإنسان وهذه مفارقة تستحق التأمل.


الإقبال كبير جدا الآن على منتجات العولقي التي تخاطب العقلية الغربية بلغتها ومنطقها الجدلي وهو ما يعني عودة «القاعدة» من جديد جنبا إلى جنب مع «داعش» وبالتالي وفرة في المناخ الإرهابي وغياب كامل للفضاء الديني المعتدل الذي لا يزال مترددا كما كان منذ لحظة انهيار البرجين، هل يمكن القول إنه تم إنعاش قلب «القاعدة» من أوروبا ومن مدينة النور باريس!