كمال بالهادي
أياً كان الاسم الذي وقع إطلاقه على الهبّة الشعبية الفلسطينية في القدس، وما تبعها من حراك في مناطق فلسطين من غزة إلى رام الله، فإنّ حرب السكاكين ستكون طويلة، وستضاف إلى تاريخ نضالات الشعب الفلسطيني منذ أكثر من 60 سنة لاستعادة أرضه المسلوبة وحقوقه المغتصبة.
هناك سعي صهيوني للتعتيم على ما يجري، وهناك شبه تواطؤ إعلامي دولي، لغاية عدم إعطاء ما يحدث حجم الانتفاضة الشعبية كاملة الشروط. ورغم ذلك فإن الشباب المنتفض، وأعداد الشهداء من شبّان ونساء وأطفال، تفرض على الجميع أن يقرّ بوجود هذه الانتفاضة الثالثة.
صائب عريقات كبير المفاوضين الفلسطينيين، قال إن ما يحدث هو انتفاضة شعب أعزل لا من السلاح فقط، بل حتى من الدعم المعنوي. فسابقاً كانت صرخة فلسطين تعلو في كامل أرجاء الوطن العربي، وينتفض لها أحرار العالم، أما اليوم ففي كل دولة مصيبة ولدى كل شعب محنة قاسية، جعلت الشعب الفلسطيني يواجه الاحتلال الصهيوني وهو أعزل. وربّما يعيش الفلسطينيون حالة العزلة هذه للمرّة الأولى منذ عام النكبة 1948. يبدو الأمر طبيعياً، بما أن دفّة «الربيع العربي» تمّ توجيهها منذ الأيام الأولى حتى لا تتجه بوصلة الشعوب نحو القدس وتطالب بتحريرها.&
قراءة ما يحدث حاليّاً، لا يجب أن تتوقف عند مسألة عملية اقتحام المسجد من قبل مستوطنين، لأنّ الاقتحامات والإهانات للمدينة المقدسة ليست جديدة فهم سبق أن حرقوا المسجد في عام 1969. واقتحموا الكنائس ودنسوا كل مكان مقدّس. هناك مشاريع أكبر من مجرّد الاعتداءات على الأقصى، وهي التي دفعت الشباب للانتفاض بكلّ ما يملك، ردّاً على تلك المشاريع. الأمر الذي يجب التوقف عنه، يتمثل في أن إعلان بنيامين نتنياهو منذ نحو سنتين عن يهودية دولة الكيان، يتمّ ترجمته على الأرض من خلال سياسات تهويدية تمسّ في المقام الأول مدينة القدس، ومحاولات السيطرة التامة على الجزء الشرقي منها. وخطورة هذه القرارات الصهيونية، تكمن في أنها تسعى إلى سياسة فرض الأمر الواقع مستغلّة انشغال العرب بصراعاتهم واقتتالهم الذاتي.
المراقبون يؤكّدون أن سلطات الاحتلال تراجعت عن كل الاتفاقيات التي تم إمضاؤها مع السلطة الفلسطينية، في إطار اتفاقيات السلام، وتنكّرت لكل الوعود التي تم إطلاقها سابقاً للأطراف التي كانت ضامنة وراعية لمفاوضات السلام. نتنياهو بنى مشروعه الانتخابي على نقاط أساسية، تتمثل في حسم أمر مدينة القدس وضمها بالكامل لدولة الاحتلال، وهو الوتر الذي عزف عليه لضم الأحزاب اليمينية المتطرفة لفريقه الحكومي. ومن هنا يصبح من الطبيعي الحديث عن حرب دينية بين المسلمين والمسيحيين، من جهة وبين اليهود من جهة ثانية. فقد أعلن رئيس الحكومة ذلك على الملأ عندما اختار التصعيد في مدينة القدس.
الفلسطينيون يتحدثون عن أن عمليات التنسيق الأمني بين السلطة وجيش الاحتلال، قد تم تجميدها بالكامل من طرف واحد هو الحكومة الصهيونية، وهو أمر مقصود. إذ يمكن لحكومة الاحتلال تنفيذ أي عملية داخل المناطق «أ»، وذلك يعني عملياً إلغاء كل ما ترتب من تفاهمات في اتفاقية أوسلو. وربّما كان إعلان الرئيس محمود عباس خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، عن أن اتفاقيات السلام قد ماتت، وانتهت مدة صلاحيتها، هو اعتراف حقيقي بأن السلطة الفلسطينية لم تعد تملك شيئاً على الأرض التي تمت استعادتها ضمن التفاهمات السابقة. ولذلك فإن تحميل المسؤولية للسلطة إزاء ما يجري في الضفة الغربية، واتهامها لعباس بدعمه للشباب المنتفض، هو نوع من إيجاد ذريعة لتدبير أمر خطر ضد الرئيس الفلسطيني، شبيه بما فعلته ضد الرئيس الراحل ياسر عرفات. ومعنى كل هذا هو إيجاد ذرائع لحلّ السلطة الفلسطينية والعودة إلى نقطة الصّفر. مشروع اليمين المتطرف الحاكم في «إسرائيل»، لا يتجاوز هذه المخططات وهو بدءاً من رئيس حكومته لا يؤمن أصلا بالسلام أو بوجود الفلسطينيين على أرضهم التاريخية.
الفلسطينيون، الذين لم يتحركوا أيام ثورة الشباب العربي، في دولهم على الأنظمة السابقة، وأضاعوا فرصة تاريخية لطرح قضيتهم بكل ثقلها أمام مسؤولية المجتمع الدولي، بلغوا في هذه الفترة مرحلة اليأس التام من أي دعم لمطالبهم. فلا مفاوضات ولا اهتمام دولي بقضيتهم، ولا أي أفق واضح لمستقبل القضية الفلسطينية.
ليس لدى هؤلاء الشباب سوى السكاكين المنزلية، التي أشهروها في وجه عدو آثم لا يرتدع إلاّ بالقوّة. فإن كانت الحجارة قد أجبرت عتاة الصهاينة على الرضوخ، وقبول تسليم بعض المناطق من فلسطين التاريخية لأصحابها، فإنّ السكاكين كفيلة بتحرير الأرض والمقدسات. ولهذا يخشى الصهاينة ثورة السكاكين ويرغبون في وأدها قبل أن تتحول إلى ثورة عارمة. ولديهم أكثر من سبب:
- هم يعرفون جيّداً أن الاعتراف بوجود انتفاضة معناه انتظار نصر سياسي للفلسطينيين، وإحياء القضية على المستوى الدولي. وطبعاً لا يرغب اليمين المتطرف الحاكم في إحياء القضية والعودة إلى طاولة المفاوضات، وما سينتج عنها من طرح القضية بصفة جدّية وبحث مسألة الحلّ النهائي، وهو ما تريده حكومة نتنياهو.
- يعوّل الصهاينة على عزلة الفلسطينيين في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ العالم العربي، وصناع القرار في دولة الاحتلال يعتقدون أن بإمكان أجهزة الشرطة والجيش أن تقمع هذه الانتفاضة من دون ضجيج، فهي أشبه بفسحة يقومون بها. وفاتهم أنّ كل أجهزتهم عجزت عن كسر إرادة الغزاويين المعزولين عن كل أنحاء العالم منذ سنة تقريباً.
- انتفاضة السكاكين هي أكثر رعباً من انتفاضة الحجارة، والمستوطنون يخشون كثيراً مما يمكن أن يفعله الشباب الفلسطيني ولذلك تخشى حكومة الكيان من أن تتسبب هذه الانتفاضة في موجات هجرة عكسية من «إسرائيل»، وهو كابوس يعيش عليه حكامهم.
- الانتفاضة الأولى أو الثالثة أو حتى العاشرة، ليست المسألة مسألة تسميات، بل هي ثورة شعب مظلوم آن أوان استرداد حقوقه، ولو بالسكاكين، والحرب ستكون طويلة.
التعليقات