غسان الإمام

في ربع الساعة الأخير من القرن العشرين، وفي استدارته لاستقبال الألفية الميلادية الثالثة، ظهرت على سطح السياسة، وفي طيات الأجهزة المخيفة، شخصيات تملك شراهة متعطشة للإمساك بالسلطة. واحتكار المسؤولية، والرغبة في المخاطرة بحاضر ومستقبل دولها ومجتمعاتها.


في الدراسة السيكولوجية المعاصرة، منذ سيغموند فرويد وكارل يونغ، ليس هناك ملاك كامل. أو شيطان مطلق كامن في نفسية وشخصية الإنسان السياسي المعاصر. في المجتمعات المتقدمة، كان بالإمكان ضبط هذه الشخصيات. وإلزامها باحترام الدساتير والقوانين. غير أن تخلف الوعي الثقافي والسياسي، في المجتمعات النامية، أطلق العنان للمؤسسة الرئاسية وبطانتها الفاسدة، لتجاوز هذه الضوابط. وارتكاب مخالفات قمعية وصلت في رواندا. وبوروندي. وجنوب السودان. وسوريا. والعراق. ودول البلقان، إلى حروب أهلية ارتكبت فيها الأنظمة وقوى المعارضة مجازر جماعية مروعة، فاقت تلك المرتكبة في القرون الوسطى الأوروبية.
لست أنا الذي اخترت الحديث عن بشار الأسد، كأنموذج رئاسي صارخ، في عنفه القمعي الذي أوصله إلى ممارسة الإبادة الجماعية لشعبه. إنما جيمي كارتر «القديس» الرئاسي الذي اختار الحديث عنه، كأنموذج للعناد في الشخصيات والزعامات التي سيكف عن التعامل معها، بعد اقترابه من الغياب الأبدي، بسبب إصابته بسرطان الدماغ الوراثي في أسرته.


لا أوافق كارتر الرأي في اعتبار عناد بشار السبب الذي أوصله إلى حاله الراهنة، كرئيس مهزوم. وآيل للانصراف، بعدما أضحى عبئا ثقيلا على الضمير الإنساني. وعلى الدول المؤيدة والمعارضة له. غير أني لست نادما على لقائه في باريس قبيل أشهر من وفاة أبيه (2000). فقد كان معروفا لدى الرئيس جاك شيراك أن الأسد الأب قد أنهكته أمراض الشيخوخة المبكرة. وتدهورت ملكاته الذهنية والعقلية المصاحبة لها، بحيث سيطر عليه تماما نجله الثاني الذي حل وريثا له، بعد مصرع شقيقه باسل الوريث الأصلي، في حادث سيارة (1994).


في متابعتي لمسيرة الشخصيات السياسية والعامة، بت أعتبر الحكمة هي الصفة الأولى التي يجب أن يتحلى بها المسؤول ورجل السياسة. حكمة الصبر والاتزان. ومعرفة الوقت المناسب للانسحاب هي التي علمت الرئيس اللبناني ميشال سليمان الاعتذار عن عدم تمديد وتجديد ولايته، أمام تلاعب إيران وعميلها حزب الله بمصير لبنان.


ولد بشار وملعقة الذهب في شدقه (1965). وعندما لمس اهتمام والده بالتركيز على تنشئة شقيقه باسل، كمرشح مبكر وارث له، اعتزل العمل السياسي، مكتفيا باهتمام أمه به. وبأناقة هندامه التي يتميز بها عادة شباب الحزب الفاشي. فقد كانت هي وأسرتها (آل مخلوف) من أنصار الحزب السوري القومي.


في دراسته الثانوية والجامعية، كان أساتذة بشار يدركون أن مهمتهم، في نظام مافيوي شرس، هي تمرير تلميذهم نجل الرئيس، بقدر كبير من السهولة في دراسته الطبية، كحكيم عيون يفهم في البصر، أكثر مما يفهم في البصيرة. ثم وصل وهم أوروبا إلى حد الاعتقاد بأن تخصصه الطبي في إنجلترا، كان كافيا لاستيعابه «قيم وفضائل» الديمقراطية الرأسمالية الغربية.


لكن مع شعور بشار بدنو أجل أبيه المريض الواهن، تمكن من إقناعه بالتخلص من «العرّابين» الأقوياء المهددين لرئاسته في نظامه المافيوي. فتم القضاء على الطموح الرئاسي لدى عمه رفعت. وإقالة اللواء علي دوبا المدير المخيف للمخابرات والشرطة العسكرية. وحكمت الشهابي رئيس الأركان المتهم بالانحياز لأميركا. ومعظم القادة العلويين للفرق المدرعة. وتحييد الدور اللبناني لنائب الرئيس عبد الحليم خدام الذي قاد عملية تنصيب بشار رئيسا، بعد تعديل الدستور على مقاس فتى في الخامسة والثلاثين من العمر. ثم إجباره على الاستقالة بعد اغتيال صديقه الحميم رفيق الحريري.


وتبدد الأمل تماما بإصلاحية بشار، عندما بطش فور وفاة أبيه بمنتديات المثقفين التي طالبته، على خجل، بمجرد الانفتاح. وساقهم إلى المعتقلات، مرفقين بأحكام قضائية قاسية، من قضاء فاسد وعميل للسلطة التنفيذية. وأعاد الشيوعي التائب رياض الترك إلى السجن الذي لم يرَ فيه نور الشمس طيلة عشر سنين، في زمن الأب حافظ.


نفى بشار بإلحاح تنسيق نظامه مع المخابرات الإيرانية وحزب الله، في تصفية صف طويل من رجال الدين. والسياسة. والأمن في الطائفتين المارونية والسنية. لكن هذه الجرائم استمرت حتى بعد انسحاب جيشه من لبنان (2005).


فارقت حكمة الاتزان النفسي والشخصي بشار الذي كان في استطاعته مصالحة الإسلاميين الذين اعتقلت المخابرات أطفالهم في درعا. وهدهدة التظاهرات والاحتجاجات السلمية، بدلا من استخدام العنف. والقمع. والسلاح ضدها. وعزّ على أنانيته الاستقالة والانسحاب في اللحظة السياسية المناسبة، كما فعل الرئيسان المصري حسني مبارك. والتونسي زين العابدين بن علي، إثر انحياز جيشيهما للانتفاضة الشعبية ضدهما.
وصل الأمر بجناح بشار الاستئصالي إلى تفجير مركز إدارة الأزمة فوق رؤوس رموز الجناح السلطوي الراغب في المهادنة (حسن تركماني. داود راجحة. آصف شوكت). وكان بشار هو الذي أقنع والده بالسماح لشقيقته بشرى بالزواج من آصف الأب لعدة أطفال من زواج آخر.


رسم الرئيس بوتين الرئيس بشار، على المسرح الدولي، «مناضلا» ضد «إرهاب» التنظيمات الداعشية والقاعدية. ومدافعا صنديدا عن «شرعية» نظامه المافيوي. ومع استحالة الحل العسكري، عاد بوتين لطرح مشروعه للحل السياسي، بمشاركة السعودية. وتركيا. وإيران.


قبلت السعودية بالجلوس مع إيران، في فيينا، أملا في إقناعها بالانسحاب من التورط في المنطقة العربية. وكان الصحافي البريطاني باتريك سيل قد نوه في كتابه الدعائي لنظام الأسد (1988)، بأن الأسد هو الذي تحالف مع إيران الخميني ضد القومية العربية. وها هو نجله بشار قد وصل بهذا التحالف، إلى حد التبعية لإيران خامنه ئي. ولم يفق منها إلا بالاستنجاد بروسيا!
الأمل كبير في أن لا تعطل «بس مات» الوزير الإيراني الغامض جواد ظريف «ليالي الأنس» في فيينا. فيقبل بإزاحة الرئيس الآيل للسقوط، لعجز عموده الفقري عن الانحناء بقامته الطويلة، لسماع النصيحة والمشورة. كنت قد ناشدت النظام العربي المعني بالمأساة السورية الإلحاح على الإدارة الأميركية والحكومة العراقية، لانتزاع اعتراف بعروبة الأراضي العربية، من الأكراد الذين تدربهم أميركا. وتسلحهم. وتمولهم، فيقيمون دولة كردية على أنقاض الدولة الداعشية في سوريا والعراق. وكأننا يا بوتين وأوباما «لا رحنا ولا جينا».
&