&
عبد الجليل زيد المرهون
تواجه سورية عنفاً، دوليّ الطابع والإطار، لم يشهد له التاريخ مثيلاً.
وبحكم عملي، درست يوماً تجربة العنف في إيرلندا الشمالية، الذي نسب للجيش الجمهوري الإيرلندي، كما درست قبل ذلك بسنوات تجربة العنف في إقليم الباسك (وإسبانيا عموماً) المنسوب إلى منظمة إيتا، المطالبة بالاستقلال.
وبين هذه التجربة وتلك، وقفت على عدد غير قليل من التقارير والدراسات الدولية التي تناولت تجارب العنف في دول مثل الكونغو والسلفادور، وصولاً إلى العنف الاثني في إندونيسيا.
والحقيقة، التي يجب أن تقال للجميع، هي أن أيا من التجارب العالمية لم تقترب من مستوى التجربة السورية مضموناً ونطاقاً، ولم ينتج عنها حجم مماثل للمآسي التي تعرض لها الشعب السوري على أيدي جماعات العنف بمختلف مسمياتها.
لقد جرى تدمير ممنهج لركائز الدولة السورية، التي هي ملك أصيل لشعبها.
هناك حرب مستمرة طالت المياه والنفط، والزراعة والصناعة، والآثار والرموز الدينية. وهناك، قبل ذلك، عصف بالمجتمع وأمنه.
ولعل الجميع يتابع ما يصدر دورياً عن الهيئات الدولية من إحصاءات ومسح لعواقب العنف على الاقتصاد الوطني، بكامل قطاعاته ومرافقه. وهناك أيضاً تقارير مماثلة تصدرها الهيئات السورية المحلية، كالبنك المركزي.
هذا العنف، عصف بمجتمع كان آمناً مستقراً، وخرب رقعة واسعة من البنية التحتية الوطنية، وتسبب في نزوح وهجرة ملايين السوريين من قراهم ومدنهم، وأفرز ظروفاً معيشية لم يعهدها الناس من قبل، وأضاع في المجمل الكثير من الفرص على الوطن وشعبه.
في إيرلندا، نُسب العنف، كما سبقت الإشارة، إلى الجيش الجمهوري الإيرلندي. فإلى أية جماعات يُمكن أن ينسب العنف في سورية؟
هذا السؤال بالغ الأهمية والحساسية. والجميع يتهرب من الإجابة الصحيحة والكاملة عنه، إذ إن هناك حسابات سياسية واضحة، وهناك ازدواجية ونفاق.
ولنرَ كيف بدت التطوّرات في بعض نماذجها:
قبل أكثر من عامين، سيطرت إحدى الجماعات على مدينة عدرا الصناعية، وما أن ثبتت نفسها هناك حتى قامت بسلسلة جرائم دموية طالت المدنيين العزل.
وقبل نحو عام من الآن، أقدمت بعض هذه الجماعات، المتواجدة في منطقة وادي بردى، على قطع شريان المياه، وتعطيش الدمشقيين لأيام.
وكثير من هذه الجماعات، وجماعات أخرى مماثلة، تجاهرت وتفاخرت مراراً بتفجير السيارات المفخخة في المدن، وسفك دماء السوريين العزل.
المشكلة هنا هي النفاق السياسي، وتغليب المصالح الخاصة على مصلحة الشعب السوري، وحقه في الحياة الآمنة والكريمة.
اليوم، أضحى الإرهاب في سورية خارج نطاق السيطرة، وباتت أطراف كثيرة في العالم تدفع ثمن هذا الإرهاب، الذي تغاضت عنه طويلاً، واعتبرته شأناً لا يعنيها.
وقد قرأت ذات يوم تقريراً كتبه مسؤول سابق في إحدى وكالات الإغاثة، يقول فيه إنه وفريق عمله كانوا يتعاملون مع حوالي 1200 جماعة مسلحة على امتداد القطر السوري. ولكل من هذه الجماعات رايتها وشعارها.
وفي وقت متزامن، تقريباً، ذكر تقرير أميركي أن المجموعات المسلحة في سورية قد وفدت من 80 دولة.
ومما تذكره التقارير الدولية أيضاً أن أموالاً كثيرة قد دفعت لتنظيم عمليات نقل الأسلحة من ليبيا إلى سورية عبر دول ومنافذ مختلفة. كما جرى نقل أسلحة كثيرة من دول في شرق أوروبا. وكل ذلك موثق الآن بالتواريخ والأسماء والشهود.
وكيف دخل هذا العدد الكبير من الأفراد للقتال في سورية؟
هذا هو الوجه الآخر للصورة. هذه ليست خططا يرسمها أفراد، بل أجهزة استخبارات، لديها القدرة على التمويل، وتزوير الوثائق للحركة عبر المطارات، وتنظيم الدخول -في نهاية المطاف -عبر المنافذ السورية غير الشرعية.
وهل يستطيع الأفراد والجماعات تمويل المعارك والحروب ارتكازاً إلى قدرات ذاتية؟
بالطبع لا. هذه خرافة. ليست هناك من جماعة قادرة على خوض معركة مدتها خمسة أعوام دون دعم وتمويل خارجي كبير ومباشر.
هذا الدعم الخارجي له قنواته الكثيرة التي لا تحصى. وهناك تقارير نشرتها هيئات رسمية أميركية أشارت لبعض هذا الدعم، بيد أن ما جاء في هذه التقارير ليس كل شيء.
وللمرء أن يتصوّر بأن حملة "تبرعات" جرت في بعض دول المنطقة، على مدى أسبوع فقط، كانت حصيلتها حوالي مئتي مليون دولار، ذهبت إلى مقاتلين "معتدلين"، وفقاً لتقرير صحفي.
وعلى الرغم من كل ما يجري نشره، فإن قضية التمويل أكثر تعقيداً بكثير من مسألة جمع التبرعات. إنها تستند بالضرورة إلى شبكات دعم خفية ومنظمة، وذات إمكانات عالية.
ومن هي أساساً الجماعات المقاتلة في سورية؟
هناك تقرير نشره موقع شبكة (البي بي سي) البريطانية، قبل حوالي عام، عرضت فيه خريطة لتكوين هذه الجماعات، ومواقع انتشارها، والتقدير المبدئي لعدد أفرادها.
وهناك تقارير أخرى عديدة في هذا الاتجاه، نشر كثير منها في العام 2015. كما توجد على الشبكة العنكبوتية دراسات صادرة عن مراكز بحثية، تناقش بالتفصيل المشهد العسكري في سورية، بما في ذلك انتشار المجموعات المسلحة، على اختلاف اتجاهاتها وولاءاتها.
وعلى الرغم من ذلك، فإن الجماعات الأساسية في مشهد الاشتباك العسكري الراهن هي تلك المنحدرة مما يُعرف بالجيل الثاني من تنظيم القاعدة، وأبرزها تنظيما "داعش" و"النصرة".
وحتى وقت قريب، كان المركز الأهم لجبهة النصرة يتمثل في ريف القنيطرة، وبدرجة أقل أرياف درعا. وقبل أشهر، حدث تطوّر جديد تجسد في سيطرة النصرة على مدينة إدلب وبعض أريافها.
في الحسابات السياسية، لازال وجود النصرة في القنيطرة هو الأكثر دلالة. فهذا الوجود يشكل حاجزاً أمنياً بين القوات الإسرائيلية من جهة، والجيش السوري والقوى المتحالفة معه من جهة أخرى.
أما إدلب فهي قصة مختلفة، ومستقبل وجود النصرة فيها ينتظر حسم معركة أرياف حلب، وريف اللاذقية الشمالي.
وبالنسبة "لداعش"، فإن وجودها الرئيسي لازال في محافظة الرقة، كما تتواجد على مساحات واسعة من أرياف دير الزور والحسكة، وبدرجة أقل حلب. وهذا فضلاً عن مناطق متفرقة من سورية.
وتظهر خريطة تفاعلية نشرتها صحيفة نيويورك تايمز أن ما تسيطر عليه "داعش" من أراض هو في الغالب مناطق مهجورة من السكان جزئياً أو كلياً. وقسم كبير منها أراض صحراوية واقعة بين سورية والعراق، إلى الشرق من حمص.
ورغم ذلك، فإن المغزى السياسي هو أن جزءاً حيوياً من البلاد قد وقع تحت سيطرة جماعة متطرفة. وهذا الأمر لم يكن ليحدث لولا الدعم الخارجي الكبير، وخاصة تسهيل دخول المقاتلين إلى الأراضي السورية، عبر منافذ غير شرعية، في انتهاك صارخ للمواثيق الدولية.
أما قضية التمويل، الذي يديم السيطرة على هذه المناطق الشاسعة، فقد يكون أحد مصادره الأساسية بيع النفط من المناطق الشمالية الشرقية إلى تجار السوق السوداء.
وقد وقفت ذات يوم على تقرير كتبه صحفي محلي من مدينة جرابلس السورية الحدودية، يوضح فيه تفاصيل إجراء هذه العملية. وهذا يشير مبدئياً إلى أننا بصدد مسألة علنية، يدركها عامة الناس هناك.
إن القضية هنا واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، ولا تحتاج إلى مزايدات سياسية.
ومن يُرد استقرار سورية، واستقرار المنطقة تبعاً لذلك، فعليه أن يكون صادقاً في خطابه، ويتوقف عن ازدواجيته طويلة الأمد.
إن سورية قد خسرت الكثير من أبنائها، نتيجة ما تقترفه جماعات العنف، على اختلاف راياتها ومسمياتها التي لا تحصى، كما خسرت نطاقاً مهماً من بنيتها التحتية.
وللأسباب ذاتها، خسر السوريون جانباً حيوياً من معالمهم الأثرية، التي هي ملك للإنسانية. وقد وقفت قبل فترة وجيزة على تقرير حديث لوزارة السياحة السورية يشير إلى أن هناك نحو عشرة آلاف موقع أثري منتشرة على امتداد الجغرافيا السورية.
وخلاصة، إن هذا الشرق، ومعه العالم عامة، لا يمكنه إنجاز استقراره من دون النظر إلى القضية السورية نظرة متوازنة، بعيدة عن المعايير المزدوجة.
&
التعليقات