غسان الإمام

أيهما تفضل الأمن أم الحرية؟! سؤال مثير للرعب، كالسؤال المحرج عن المفاضلة بين الزواج والعزوبية. فأيهما فعلت ندمت عليه. الدولة مع الأمن. الإنسان المعاصر مع الحرية. وأنا في اعتقادي الشخصي أن لا أمن بلا حرية. ولا حرية بلا أمن.


الإنسان كائن اجتماعي بالغريزة. المدينة المزدحمة هي الشكل الأخير للاجتماع الإنساني. وبوتقة للصهر الثقافي وصناعة التقاليد. ومركز لتوفير السلع والخدمات، بأكبر قدر ممكن من السهولة واليسر للإنسان المعاصر.
لكن هل تشعر بالأمان في هذا الشكل من التجمع الغريزي المزدحم؟ تخرج من البيت لتواجه من دون أن تدري الخطر على حياتك: سقوط مزهرية ورد على رأسك. شجار مع إنسان أشد توترًا منك. لص يسلبك محفظة نقودك. زميل عاقل في المكتب يفقد فجأة عقله. فيطلق الرصاص على زملائه الآمنين، لخلاف عابر. أو مزمن معهم.


في الأربعاء الفائت، قتل موظف إرهابي 14 موظفًا من زملائه في مؤسسة حكومية في مدينة سان برناردينو بولاية كاليفورنيا، وهو مدجج ببنادق زوجة وفية، لحقت بها فورة نساء العصر، فشاركته في قتل زملائه. وأعلنت «داعش» مسؤوليتها تخطيطًا. وتنفيذًا.


في هذه السنة، مات في أميركا 462 إنسانًا في حوادث قتل عابر. فقد خرجوا من بيوتهم، وفي ظنهم أنهم سيعودون إليها سالمين. ما أصعب الموت العابر في حادث مرور في الجو. والبر. والبحر! نهاية مفاجئة للإنسان المدني المعاصر. صدمه أشد صعوبة على أهله. وزملائه. وأعدائه، من موت مريض في سرير.


لكن الحياة أقوى من الموت. شاهدت الشموع تنطفئ. والزهور تذبل على باب مسرح «باتاكلان». ومقاهي الحيين العاشر والحادي عشر في باريس، حيث قتل العنف الديني 130 إنسانًا. وجرح 450 آخرين، لا علاقة لهم بالسياسة. والدين. والحرب. كفكفت باريس دموعها. وتخلت مؤقتًا عن رعبها. ومضت في ضجيج الازدحام. وحلة الأنوار الباهرة إلى الإعداد للاحتفال مع الأطفال بأعياد السنة الجديدة.
هل الحياة رخيصة بهذه السهولة المرعبة؟! حتى شرطة العالم لم تعد تجهد نفسها في اعتقال المجرمين، وتسليمهم إلى القضاء، للتحقيق معهم ولمعرفة ملابسات وألغاز جرائمهم. فهي تفضل قتلهم في الشارع. وفي أوكارهم ومعهم رهائنهم. لم يعتقل بن لادن للتحقيق معه. فقد قتل في منزله السري. وحملت جثته لتلقى إلى حيوانات البحر.


الإرهابيون أيضًا لا يحتفظون برهائنهم للمساومة عليهم. هم أيضًا يقتلونهم بدم بارد في مسرح باتاكلان. وفي تدمر. والموصل. وجبل سنجار. فقد تحولت الشهادة الدينية إلى عملية انتحار. إهانة للعقل وواقع العصر أن نصنف الناس بمقاييس القرون الوسطى: مؤمنين وكفارًا. استخفاف بالدين. والواقع. والحضارة الإنسانية، أن يأتي أئمةٌ مسلمون بثقافة شمولية واحدة، لتلقين الحلم الساذج بـ«أسلمة أوروبا» بالعنف، لشباب مسلمين بالولادة. لا يعرفون الدين. ولا الثقافة. ولا يتكلمون العربية.


منذ ثلاثة قرون أنهت أوروبا قتل زنادقتها. وكفارها. وملحديها. ومؤمنيها. أوروبا اليوم لا تذهب إلى الكنيسة. استقبلت العرب عمالاً في سلمها. وجنودًا ومتطوعين في حروبها. منحتهم الجنسية. والمساواة. وحرمت شبابهم عمليًا من العمل. فقادهم الفقر. والحرمان. واليأس، إلى إدمان العنف الديني. أخطأ الرئيس السابق نيكولاي ساركوزي، في تشكيل مرجعية دينية لمسلمي فرنسا. كان عليه تشكيل مرجعية اجتماعية، تشجعهم على الاندماج في المجتمع. والانتساب إلى أحزاب سياسية قادرة على تشغيلهم في القطاعين العام والخاص. استولت الأحزاب الدينية (الإخوانية خصوصًا) والتيارات الجهوية المغربية والجزائرية، على المرجعية الدينية في فرنسا. وانشغل مشايخها بأنفسهم، عن مكافحة الإدمان الديني لدى الشباب الذين يعايشونهم في بيئة أشبه بـ«غيتو» يرفض العصر. فلا هم يبلغون أجهزة الأمن عنهم. ولا هم يواجهونهم بخطاب ديني متسامح. الشيوخ يكتفون ببيان إدانة كلما ارتكب الشباب مجزرة!
بل أقول إن المرجعية الدينية التقليدية المتحالفة مع النظام العربي أخفقت هي أيضًا في مكافحة الإدمان الديني. لا يكفي سوق مشايخ الأزهر وغيرهم للظهور مع الأساقفة في المؤتمرات الدينية العالمية. عليهم الذهاب إلى باكستان. ونيجيريا. وأفريقيا عمومًا، لإشاعة الدين الصحيح. وثقافة التسامح. ولمنع الاقتتال بين السنة والشيعة.


المسجد منبر إعلامي أكثر نجاحًا في التواصل مع عامة المسلمين، من الصحافة. والتلفزيون. والإنترنت. أسمع أحيانًا خطبة الجمعة الدينية، يؤديها أئمة مرجعية ساركوزي الدينية. مجرد كلام إنشائي عام عن التسامح. وإغراق في كيل المديح للسلف الصالح. بلا تعريف للإسلام والمسلمين بالعصر. وبلا دعوة للتعايش مع المواطن الآخر غير المسلم.


أسمح لنفسي بالحديث بالمنطق الطائفي. فأقول إن الغضب العارم الذي ينتاب الغالبية السنية، نتيجة لغزو أميركا بلدين سنيين (العراق وأفغانستان). وتقويض عروبة العراق وتسليمه إلى عملاء إيران، لم يأخذ مجراه الديني. والإنساني. والحضاري الصحيح. ولا يمثله قط الزرقاوي. وأبو قتادة. وأبو حمزة المصري. والجولاني. والبغدادي. ولا إرهاب جبهة النصرة. والقاعدة. وداعش.


كان الأحرى بالسنة العربية الاقتداء باليابان وألمانيا في تحديهما الهزيمة الساحقة المرة، بالرهان على التنمية. والثقافة الإنسانية. الأزمة المالية (2008) لم تحل دون احتلال هذين البلدين المركزين الثالث والرابع في إجمالي الناتج الوطني، بعد الولايات المتحدة. وها هي الصين تتقدم لاحتلال المركز الثاني منذ تخليها عن جوع الثورة الماوية، في حين تتخلف روسيا بوتين التي تغزو سوريا. وتهدد تركيا، فلا تتجاوز قيمة إنتاجها الوطني، قيمة إنتاج المكسيك. أو كوريا الجنوبية.


حققت اليابان وألمانيا الرفاهية والرخاء لشعبيهما، بالعلم. والتنمية. وممارسة اللعبة الديمقراطية السلمية، بالحوار. والتناوب على السلطة بين أحزاب الموقف. والرأي، بعد اختفاء أحزاب الآيديولوجيا الفاشية المهزومة في الحرب.
وصل الرعب بالإنسان المعاصر إلى المفاضلة بين التنمية والبيئة. بمعنى هل علينا وقف التنمية للمحافظة على سلامة البيئة؟! أم علينا مواصلة التطوير الإنمائي، غير مبالين بغضب الطبيعة ورعب البيئة؟ السؤال صعب ومحرج، تمامًا كما السؤال عن المفاضلة بين الأمن والحرية، والزواج والعزوبية.


الدولة أيضًا تمارس الرعب مع الإنسان المعاصر. قطعت البلدية الأشجار الخضراء في الشارع الذي أقيم فيه، لتبني ملجأ للسيارة تحت الأرض (باركنغ). تغرق دول أميركا اللاتينية محصول البن الوفير في البحار، لتحافظ على السعر الرأسمالي المرتفع في أسواق مدمني القهوة. قتل جيش بشار الإنكشاري أبقار إدلب التي تدر الحليب المغذي للأطفال. يقطع المستوطنون اليهود أشجار الزيتون في الضفة، لحرمان الفلسطينيين من تصدير زيتها. يصرخ نتنياهو بصلافة في وجه أوروبا، لتمييزها سلع المستوطنين الذين سرقوا تقنية صنعها من الأرملة الفلسطينية التي فقدت زوجها. أو الأم الثكلى بابنها الذي أرداه رصاص الاحتلال، لأنه استخدم الحجر في المقاومة.
فلسف المعري رعبه المبكر من ازدحام الأرض بالبشر. «صاحِ. خفف الوطأ. فما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد». ثم عبر عن رعبه من الموت المحتم في الازدحام، بتسجيل عتبه على شاهدة ضريحه: «هذا ما جناه أبي عليّ. وما جنيت على أحد». فحطم الإرهاب الديني النصب الذي أقيم لتكريمه.


سمح الحزب الشيوعي لمليار صيني، بإنجاب الطفل الثاني. فتحولت الصين من دولة تنجب الجوع والرعب بالآيديولوجيا الماوية، إلى دولة تنجب التنمية في الدول الفقيرة. أصيب رأسماليو العالم بالرعب. فهم يطالبون الصين بالكف عن إنتاج السلع الرخيصة التي أنقذت العالم من رعب الفقر.
&