عبد الوهاب بدرخان

قابلت الرجل صدفةً على هامش ندوة عن مسألة الهجرة واللاجئين، وتبادلنا حديثاً أولياً فعلمت أنه متخصص في علم الاجتماع ويعمل باحثاً ومحللاً لمصلحة جهة أمنية، وقد سمح له إتقانه العربية أن يتابع ما يُكتب صحفياً ويُبث فضائياً وينشر إلكترونياً. سألني: كيف تلقيت كلام المرشح الجمهوري للرئاسة الأميركية دونالد ترامب؟ فقلت إنه يدعو إلى منع دخول المسلمين أميركا ويريد دخول تجارته كل الدول المسلمة، لا شك أن تصريحاته مثيرة للاستهجان والاشمئزاز، لكن أفضل الردود عليها جاء من داخل أميركا ومن الصحافة الغربية عموماً. والواقع أن الذهاب إلى تطرّف، سواء بالحرب أو بالأفكار، يؤدي في نهاية المطاف إلى التقاء المتطرّفين موضوعياً، لذلك نجد أن تنظيم «داعش» يخدم ترامب في شعبويته مثلما أن ترامب ومسؤولين هنغاريين وغيرهم يخدمون حملات «داعش» لتجنيد متطوّعين.

أسهب محدّثي في تفنيد هراءات ترامب، مستنداً إلى أنه مرشح يتكلّم من خارج السرب الغربي بمفاهيمه الديمقراطية والقانونية والإنسانية، لكنه بدا قلقاً ومتخوّفاً من حقيقة أن نحو مليوني لاجئ أو مهاجر غير شرعي استفادوا من ثغرات الحدود والقوانين لاختراق أوروبا، وكذلك من حقيقة أن هؤلاء لا يلبثون أن ينضووا في جاليات مهاجرة ثبت مع الوقت أن الإرهابيين «الإسلاميين» يخرجون منها.


وأضاف أن هاتين الحقيقتين معطوفتان على أزمة اقتصادية متمادية، رسّخت في أذهان فئات متزايدة أن سياسات الأحزاب التقليدية ضعيفة وغير مجدية، لذا تتجه غالبية هذه الفئات حالياً إلى خيارات يوفّرها اليمين المتطرّف بأطروحاته القصوى عن مكافحة الهجرة، وأضف إليها أخيراً اقتراحات أمنية وقانونية متشدّدة.

وإذ لاحظت مستنتجاً أن الهجمات الإرهابية في باريس شكّلت خلفية لتشدّد الحكومة الفرنسية، ليس أمنياً فحسب بل حتى باقتراح «سحب الجنسية» من أي شخص تثبت عليه تهمة الإرهاب، كما لو أنها تستجيب لأحد مطالب حزب «الجبهة الوطنية»، سألني محدثي: هل استغربت ذلك؟ قلت إن دولاً عربية أقدمت على هذا الإجراء لترد على اتهامات لها بدعم الإرهاب ولتتبرّأ من أشخاص أساءوا إلى مجتمعاتها، ومع ذلك فمن يذهب إلى «القاعدة» أو إلى «داعش» يكون قد أصبح ذهنياً خارج أي انتماء، أما استغرابي بالنسبة إلى دول غربية فيأتي في ضوء ما ذكره عن صلابة القيم الديمقراطية ودولة القانون. هنا قال: يجب أن نقلق أكثر، وأن نتوقّع الأسوأ. انظر، رغم تشدّد الحكومة الفرنسية اكتسح مرشحو «الجبهة الوطنية» صناديق الاقتراع في أول انتخابات محلية بعد الهجمات، هذا قد يتكرر في أكثر من بلد أوروبي.

نعم سيتكرر، لأن ثمة نقمة عميقة في المجتمع، فموجات الهجرة لن تتوقّف طالما أن أزمتي العراق وسوريا لا تقتربان من الحل سواء في شقيهما الداخلي البحت أو في شقيهما «الداعشي» الذي صار تهديداً عالمياً. صحيح أنه لا تلازم حتمياً بين اللاجئين والإرهابيين، لكن مناخ الشك الحالي يسهّل الربط بينهما، كما يفعل ترامب، قلت لمحدثي: إن اليمين المتطرّف ينمو لكنه لا يزال بعيداً عن تشكيل رأي عام يغيّر من طبيعة الحكم. قال: لا تراهن على المظاهر، وما تستبعده يزداد اقتراباً، فمثلاً، أنجيلا ميركل تمكّنت من تحجيم ظاهرة حركة «بيغيدا» المعادية للمسلمين، والآن أصبحت هذه الحركة أقوى، وقد تؤدي سياسة الترحيب باللاجئين إلى فشل حزب ميركل في الانتخابات المقبلة. وأخطر، فقد نشهد نشوء ظاهرة جديدة، قوامها فرقٌ محلية لمراقبة أنشطة الجاليات المسلمة ورصد أشخاص محددين منها، اعتقاداً من أصحابها أن أجهزة السلطة مقصّرة في عملها.

كانت الحكومات الأوروبية جددت أخيراً دعواتها إلى الجاليات المسلمة لمزيد من اليقظة والوعي لما يجري داخلها، ولمزيد من التعاون مع السلطات. سألني محدّثي إذا كانت هذه الجاليات لا تزال تتوجّس من هذه الدعوات وتعتبرها حضّاً على تجسّس أبنائها على بعضهم بعضاً. قلت: إن هذه جاليات غير منظّمة ولا يمكن التعاطي معها ككيانات تمثيلية متكاملة، ولا تختلف غالبية أبنائها في سلوكهم العام عن بقية البريطانيين أو الفرنسيين وغيرهم، إذ يمضون إلى شؤونهم ويفاجأون مثل الآخرين بالعمليات الإرهابية ويسقط منهم ضحايا. الأمر إذن يتعلق بقلة تبقى هامشية ومنعزلة عن جالياتها، المؤكّد أن الإسلام المتطرف استشرى بفعل عوامل كثيرة ومعقدة، منها قوانين اللجوء المتسامحة.. والأكيد أن أي اعتبار إسلامي أو غير إسلامي لا يمنع أي جالية من صون أمنها العام في مهاجرها كما في مواطنها.
&