هدى الحسيني&
مع التدخل العسكري الروسي في سوريا نهاية شهر سبتمبر (أيلول) الماضي تحولت روسيا إلى لاعب أساسي، إنْ لم يكن اللاعب الأول في الشرق الأوسط. زادت خسائر إيران وحزب الله في سوريا مع هذا التدخل، فاضطرت الأولى - رغم نفيها - إلى مراجعة عدد حرسها المنتشرين على جبهات القتال في سوريا، أما حزب الله فازدادت عرقلته على الساحة اللبنانية ليغطي على ما يتعرض له داخل سوريا. أما تركيا فكان رد فعلها الأول إسقاط طائرة «سوخوي» روسية، وقد يمتد انتقام الروس ليضرب علاقات أنقرة بالدول التي ترتبط بعلاقات وثيقة مع روسيا، مع تجنب المواجهة العسكرية.
وسط هذا التوتر رأى زبيغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي الأميركي السابق، أن هذه الأحداث قد تؤدي إلى تقارب أميركي - روسي يدفع إلى احتواء «مفيد» وواسع للعنف الإقليمي.
في حديث إلى الموقع الأميركي «بوليتيكو»، في 27 من الشهر الماضي، قال بريجنسكي عن سوريا: «لا توجد مصلحة وطنية كبرى لروسيا في بقاء بشار الأسد في الحكم إلى ما لا نهاية، كما لا توجد مصلحة وطنية أميركية في إجباره على الرحيل فورًا، ثم هناك مصلحة مشتركة بتجنب مواجهة كبرى روسية - أميركية».
رأى بريجنسكي أن الحظ لعب دوره، لأن تركيا هي من أسقطت الطائرة الروسية وليس أميركا، ولأن قدرة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على هضم ذلك كانت ستكون أقل بكثير، وعبّر عن سعادته بأن مثل هذا الحادث لم يقع في جمهوريات البلطيق، حيث الميل الروسي للرد سيكون أسرع، ولا قدرة لدول البلطيق على المواجهة، عندها فإن ضرورة وجود استجابة قوية من الولايات المتحدة سيكون بديهيًا.
من تحليلات بريجنسكي يُفهم أن الحلف الأطلسي لن يدخل في حرب من أجل تركيا، وأن الروس سيكتفون بالرد على مواجهاتها بطلقات نارية (كما حصل يوم الأحد بين بارجة روسية وسفينة تركية حاولت الاقتراب منها في بحر إيجة) أو بعقوبات اقتصادية.
لكن ماذا يريد الرئيس الروسي؟
يقول لي خبير غربي متخصص في الشأن الروسي إن «رؤية فلاديمير بوتين هي أكثر عالمية مما تعتقد أوروبا وأميركا، وأبعد كثيرًا من الصراع في سوريا». يرى أن اللاعب الأساسي في الشرق الأوسط اليوم هو روسيا التي ترسل مزيدًا من السفن والطائرات إلى سوريا، ويتوقع أن يوسع الروس القتال في سوريا.
يقول إن «الاشتباك مع تركيا وقع بسبب القصف الروسي المستمر على القرى القريبة من الحدود التركية - السورية. وأثبت القصف أن روسيا لا تركز هجماتها على تنظيم داعش، كما تعلن، لكنها تعمل بشكل منتظم على إزالة الضغط العسكري الذي يشكله مختلف المجموعات التي تقاتل نظام الأسد، بهدف التوصل إلى حل سياسي جديد في سوريا. لأوروبا مصلحة كبرى في التوصل إلى نوع من الحل؛ تريد وضع حد للحرب الأهلية هناك، على أمل وقف تدفق اللاجئين الذين سيغرقون القارة».
وكانت تقارير أشارت أخيرًا إلى أن ممر «أعزاز» صار مسرح حرب، حيث تكثفت المعارك في تلك المنطقة في الأسبوعين الأخيرين. وتشير التطورات إلى هجوم كردي قوي بدعم من الطيران الروسي يتم التحضير له من جهة الغرب، بالتنسيق مع استعدادات الجيش السوري والميليشيات اللبنانية والإيرانية والسورية المتحالفة على مشارف حلب. ولا يبدو أن روسيا عازمة على اتخاذ إجراءات ضد «داعش» الذي يدفع بقواته إلى المنطقة من الشمال. وقد تجد تركيا نفسها في ورطة إذا ما شعرت أن ممر «أعزاز» سيسقط، فهو آخر منفذ وممر للمعارضة السورية المسلحة عبر تركيا.
يقول محدثي الخبير في الشأن الروسي إن «الغرب يقرأ خطأ عقل بوتين، فرؤية الرئيس الروسي أبعد وأكثر عالمية من الصراع في روسيا. فالصراع هناك هو مجرد مظاهرة للتحركات العسكرية التي حققتها روسيا في السنوات الأخيرة، بما في ذلك إطلاق صواريخ (كروز) من السفن الصغيرة في بحر قزوين، والاستثمارات الضخمة في الصواريخ العابرة للقارات، وحتى في خزانات مجهزة بأنظمة حماية فعالة». يشرح: «بدأ الروس في السنوات الأخيرة يعتقدون أن الولايات المتحدة تعمل على تغيير النظام في الصين وروسيا، وعلى إضعاف الصين اقتصاديًا، من وجهة نظرهم، يخشى الأميركيون من أن تقوض الصين وروسيا تفوقهم العالمي، ولهذا غيّر بوتين الاستراتيجية الروسية».
أول تحرك له لكبح النفوذ الأميركي كان من خلال الحرب في جورجيا، ثم اتخذ قرارًا بأن الحلف الأطلسي لن يتقدم شرقًا من بولندا، ثم قام بحملته ضد أوكرانيا. يضيف: «كل هذه التحركات متشابكة. وفي الواقع منذ عام 2013 وروسيا في سباق تسلح ضخم، وتتابع باهتمام كبير التحركات الأميركية لوضع صواريخ حرارية نووية في أوروبا».
كرس الروس جهدًا كبيرًا للرد على الهيمنة الأميركية، قاموا مثلاً ببناء غواصات جديدة، وصواريخ استراتيجية، والعام الماضي صدّرت روسيا طائرات أكثر من أميركا. وتنتج هذا العام 240 طائرة ومروحية. قررت روسيا الرد على تفوق الولايات المتحدة بحلول عام 2018، وهي مستمرة في خطتها. من هنا، فإن التدخل في سوريا هو جزء من صورة عالمية واسعة جدًا. يقول محدثي إن «الروس يطورون أنظمة صاروخية للدفاع، وفوجئ الأميركيون بأن الروس ليسوا متأخرين عنهم في أي مجال، فهم على وشك تقديم الصواريخ التي يمكن أن تصل سرعتها إلى 11 ألف ميل في الساعة، ومداها غير محدد، ويمكن إطلاقها من أي مكان».
لكن أعود مع محدثي إلى الشرق الأوسط ودور روسيا والاحتكاك مع تركيا، فيقول: «لنأخذ إسرائيل، فإنها تتابع تحركات الجيش المصري في سيناء ضد (داعش)». أيضًا، فإن الضغوط على «داعش» في العراق إذا ما تضاعفت قد تدفعه من هناك إلى الحدود الأردنية، وهذا أمر مقلق جدًا لإسرائيل، «إنما سيناريو مستبعد»، وكان لإسقاط تركيا الطائرة الروسية تأثير فوري على إسرائيل، إذ كان الحافز لإيصال الأنظمة الروسية المتطورة، بما فيها نظام الدفاع الصاروخي «إس - 300» إلى سوريا، فهذا سيقلل من تفوق الجيش الإسرائيلي في المنطقة، ولا يمكن بالتالي لسلاح الجو الإسرائيلي الاستمرار في طلعاته من دون الأخذ في الاعتبار الوجود الروسي في الأراضي السورية.
لكن، كيف يتعلق كل هذا بما يجري في سوريا؟ يقول محدثي: «بالنسبة إلى الطيران وصلت القدرة العسكرية الروسية الجديدة إلى مرحلة النضج. ثم إن الروس يصرون على إقامة مرافئ قبالة الشواطئ السورية.. هم استغلوا عجز الولايات المتحدة، وحقيقة أن موجة اللاجئين إلى أوروبا فرضت توقعات لدى كثير من الدول بأن روسيا قادرة على إصلاح الأمور. وصل الروس إلى تقييم من خلال الواقع الحالي بأن الأميركيين سيقبلون بأي حل يفرضونه على سوريا. ويبدو أن تقييمهم مبرر، لذلك لا يمكن فهم ما يدفع بوتين في سوريا من دون معرفة الصورة الكبرى».
رغم تعقيد هذا الطرح فإنه يبدو مبسطًا جدًا، كأن الاستراتيجية الروسية لن تواجه حائطًا مسدودًا أو عراقيل. هناك دول كثيرة استثمرت كثيرًا من هيبتها ومصداقيتها في سوريا، ثم من قال إن روسيا قادرة على فرض الحل الذي تراه مناسبًا في سوريا. كتب باتريك كوكبرن يوم الأحد الماضي مقالاً في صحيفة «الإندبندنت» اللندنية، قال فيه: «أصبح الصراع في سوريا والعراق في القرن الواحد والعشرين ما كانت عليه حروب البلقان في القرن العشرين. ومن ناحية العنف المتفجر على نطاق دولي فإن عام 2016 قد يكون لنا عام 1914، أي عام اشتعال الحرب العالمية الأولى»!
فهل يسود تحليل بريجنسكي أم سوداوية كوكبرن؟
&
التعليقات