طيب تيزيني

من فضائل الثورة السورية أنها أسهمت وتسهم في اجتراح حلول لمسائل نظرية ومنهجية معلقة، أي ما تزال تنتظر إجابات عنها، وفي هذه المقدمة إشارة إلى مسألتين اثنتين، الأولى تتمثل في أن إرجاء اكتشاف الإجابة عن إحدى المسائل في أحد الحقول العلمية، الاجتماعية مثلاً، يظهر هنا فيما ينتجه باحثون ومحللون في ضوء الواقع المجتمعي الشخصي، هذا الواقع الذي لم يُعش سابقاً فيما يغرق فيه الآن من خصائص محددة في عصرها. ومن شأن هذا أن يتحفظ على الاعتقاد بأن بحثاً علمياً نظرياً ومنهجياً لمشكلات بعينها ليس انتظاراً لنمو الوجه النظري المنهجي علّه يحدث يوماً وينتهي الأمر! ذلك لأن الواقع المجتمعي لا ينشأ وينمو مرة واحدة، وإنما هو خاضع لعملية مفتوحة من إفصاح الواقع المجتمعي التاريخي، أخفقت في إيضاحه معالم نظرية جديدة من المشكلات في وجهها النظري والمنهجي المنصرم.

وتبرز المسألة الثانية في أن اكتشاف القصور النظري والمنهجي في مرحلة من مراحل التطور التاريخي لا يعني أن ذلك الاكتشاف يجبّ ما قد يأتي بعده من تطورات. أردنا من هذا وذاك القول بأن التطورات التي حدثت في السبعين عاماً المنصرمة على صعيد ما نحن بصدده الآن، قد وضعت المسألة بصيغتها النهائية أو الحاسمة والتي اكتشفت في حينه والتي تعني القول بأن «الفقر يُنتج الإرهاب». نعم لذلك، لكن في معمعان الصراع الراهن، الذي قد يكون مقدمات وإرهاصات لعصور جديدة من التنوير العالمي الكوني، يتضح ما بين الفقر والإرهاب من علاقة، وذلك أن الفقر ينتج أو قد ينتج الإرهاب، لكنه لا يسوّغه ولا يشرعنه.

&

هذا جانب جديد وحاسم من المسألة، ويكفي القول هنا بأن مواقف أيديولوجية شعبوية تقف وراء الأمر كما وصفناه، بهدف تسعير الصراع الاجتماعي مع مستغلين غزاة ومحليين.

الآن، ونحن نواجه تحولات عظمى مناهضة للتنوير والعقلانية والتآخي بين الأديان وبين المعتقدين بها، نلاحظ ظهور التحولات الأخيرة التي يختلط فيها الحابل بالنابل، والعصور التاريخية السابقة بعصر جديد يُفرز ما كان خافياً على الكثيرين. إن الظلامية والإرهاب والتشدد تبرز كمُفرزات لعصور الفقر والإفقار في الدواخل منذ إرهاصات استغلال البشر للبشر، والتي تحولت إلى تيار متدفق مع ظهور الاستعمار الغربي الحديث الباحث عن «مجالات حيوية» لمنتجاته في العوالم الفقيرة والمُفقرة، لا لينتج الفقر والإفقار في أوساط الشعوب (والعربية منها) فحسب، بل ليؤسّس فيها كذلك لحاضنات للحقد والثأر والإرهاب .. لكن الآن ليس باتجاه الاستعمار إياه فحسب، وإنما كذلك باتجاه المجتمعات العربية ذاتها القائمة على الاستبداد والفساد والإفساد، وما أقساه عليها وما أسرعه في دفعها عبر قانون الاستبداد الرباعي، في السلطة والثروة والإعلام والمرجعية المجتمعية. وإذا ما فقد الفقراء أمانيهم وآمالهم، فعليك تصور ما يأتي!

إنها إشكالية مركبة من الفقر والإرهاب بأدوات من الداخل والخارج معاً.
&