عادل درويش
لم أكن أتصور يوما انتقادي للصحافة بعد مشوار نصف قرن في شارع الصحافة أدافع عن السلطة الرابعة التي لا يمكن لديمقراطية ناضجة أن تكتمل في غيابها.
في النظام البرلماني الملكي الدستوري، وهو أرقى ما وصلت إليه بريطانيا كالأفضل تمثيلا واستقرارا وثباتا، الحزب صاحب الأغلبية (نصف المقاعد زائد واحد) هو الحكومة. ورغم خضوعها لمحاسبة نواب الأمة فإنها آمنة من فقدان الثقة لامتلاكها أغلبية الأصوات. وهنا يكون دور السلطة الرابعة لوضع الحكومة أمام محكمة الرأي العام.
أم البرلمانات، وستمنستر، يتكون مجلس العموم فيها من 650 نائبا يمثلون 605 دوائر توزع فيها مئات الصحف المحلية. النائب يخشى مطبوعة محلية توزيعها دون 20 ألف نسخة أسبوعيا أكثر مما يخشى صحيفة «التايمز» التي توزع 25 ضعف هذا العدد يوميا، أو «الديلي ميل» التي تبيع مليون نسخة. فقراء الدائرة قادرون على فصله من عمله في انتخابات السابع من الشهر المقبل.
رئيس الحكومة ديفيد كاميرون يقلق من تعكير مزاج شاب في عمر ابنه هو المراسل البرلماني لصحيفته المحلية الريفية أكثر مما يخشى كبير مراسلي «بي بي سي»، لأنه مثل كل الوزراء نائب يمكن للناخب في الدائرة رفده من عمله يوم 7 مايو (أيار).
قرابة 400 صحافي يحملون بطاقة تخول لهم حضور الجلسات والتجول في كثير من أنحاء البرلمان، بينهم 150 لهم مكاتب داخل مبنى البرلمان بخط تليفوني من «بدالة» البرلمان، وبينهم 30 صحافيا (اللوبي) lobby أو مجموعة 10 داوننغ ستريت (بتدقيق أمني أكثر دقة) مرافقون لرئيس الحكومة أينما ذهب ويجتمعون بمستشاريه مرتين في اليوم لتبادل وجهات النظر ومساءلة الحكومة عن قرب. الحكومة تعمل لهم ألف حساب.
لكن طبيعة الصحافة الحرة تجعل مهمة الصحافي البرلماني في مراقبة الحكومة والساسة كعين الشعب سلاحا ذا حدين.
استقلالية وسائل الاتصال والصحافة هي الجانب الاقتصادي من الديمقراطية، أي حرية السوق. فالصحافة الحرة ذاتية التمويل لأنها مملوكة لحملة أسهم أو دور نشر تخضع لقواعد السوق. قراء الصحيفة أو مشاهدو التلفزيون يصوتون على نجاحها بشرائها كل صباح.
التلهف على زيادة التوزيع لربحية تضمن الاستقلالية (زيادة المشاهدين لجذب المعلن) تضع ضغوطا على الصحافي. مهمة المراسل البرلماني باهظة التكاليف؛ فمصاحبة رئيس الوزراء في رحلة للقاء زعيم آخر تكلف المراسل ما بين ثلاثة وخمسة آلاف جنيه تدفعها الصحيفة. ما يطلبه القراء أحيانا يخالف رغبة المراسل كمراقب مستقل للحكومة خاصة عشية الانتخابات.
الأسباب مادية، والمفارقة أنها ضرورية لضمان استقلالية الصحافة.
المحرر الإداري Managing editor (يختلف عن دور مدير التحرير في الصحافة العربية)، يمثل حملة الأسهم أو ملاك الصحيفة ويحدد سياسة الجريدة ويوجه رئيس التحرير. لن تجد مدير تحرير في كامل قواه العقلية يخالف إرادة غالبية القراء في موسم الانتخابات.
أغلبية قراء «الديلي ميرور» مثلا يصوتون تقليديا لحزب العمال. مراسلوها البرلمانيون الخمسة يتصيدون أخطاء الحكومة (حاليا المحافظون والديمقراطيون الأحرار) بينما مراسلو «الديلي تلغراف» (قراؤها محافظون) يفعلون العكس (خارج موسم الانتخابات تتغلب الحرفية والولاء للمهنة على الانتماء السياسي فالسبق الصحافي يجذب قراء جددا).
مثلا الصحافة الأكثر يمينية كـ«الديلي ميل» تتوقع تأييدها لحزب استقلال المملكة المتحدة الذي يعكس مزاج أغلبية قراء الصحيفة (الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، وشروط محددة للهجرة ومحاسبة المتهربين من الضرائب) المفارقة أنها تتصيد أخطاءه لإنقاص شعبيته. الحسبة معقدة لأن أي أصوات يكسبها الاستقلال يخسرها المحافظون أي تصب في مصلحة العمال وحساب الصحيفة أنهم سيضرون بالاقتصاد إذا وصلوا إلى الحكم.
الصحافة التلفزيونية استوردت تقليعة المناظرات المبثوثة بين رؤساء الأحزاب من أميركا بنظامها الجمهوري، إذ انتخاب رئيس فيها يغير كل شيء. في بريطانيا النظام برلماني. مناقشة البرنامج الانتخابي مع المرشح يدور على عتبات البيوت. نائبتي أحاسبها (كناخب لا كصحافي) وجها لوجه لأنها بنت الدائرة (غير متاح في نظام القوائم) والناخب يناقشها فيما ستصوت عليه كسياسة البلاد..
المناظرات التلفزيونية حدد أجندتها، كعموميات، مديرو شركات تلفزيون غير منتخبين أولويتهم الأرباح. زادت شعبية تيارات لا تمثل دوائر جغرافية.
ونظام الدوائر لا يعني أن الشعبية تترجم إلى مقاعد برلمانية. حزب الاستقلال يجيد زعيمه الجدل العام فارتفعت شعبيته إلى 18 في المائة لكنها تعني خمسة مقاعد برلمانية فقط، وحزب الخضر (برنامجه كوميدي كنزع أسلحة الجيش وتحويله لقوة حفظ سلام وفتح الباب للمهاجرين وتأميم كل شيء وإغلاق محطات الطاقة والاعتماد على طاقة الرياح) ارتفعت شعبيته إلى 10 في المائة لكنها تعني مقعدا واحدا في البرلمان. بينما الديمقراطيون الأحرار الذين تناقصت شعبيتهم إلى 9 في المائة فإنها تعني في صناديق الاقتراع 27 مقعدا.
مناظرة تلفزيونية واحدة تعني أسبوعا من الكتابة والتحليل واستطلاعات الرأي ومئات من ساعات الإرسال بأقل التكاليف، وهذا الكسل الصحافي أخرج قوى غريبة عن الديمقراطية البريطانية من عقالها. قطاع كبير من الشباب (18 إلى 23 عاما) يصوت لأول مرة، ويعجبه جدل الخضر المثالي، لكن أصواته ستضيع لأنه يصوت لتيار وليس لمرشح دائرة، ويعني أيضا برلمانا معلقا.
ولا شيء أخطر على الديمقراطية من البرلمان المعلق.
فائتلاف من حزبين (أو أكثر) ببرنامجين مختلفين يكون، حسب التعبير المصري «مثل الرقص على السلالم» أي ليس صعودا ولا هبوطا، حزب الأكثرية يقدم التنازلات لحزب الأقلية الذي يعضده. وقد تكون التنازلات مضرة بالاقتصاد أو الأمن. أحزاب الأقلية تريد تغيير النظام الانتخابي لنظام القوائم الأقل ديمقراطية فنظام الدوائر ديمقراطية مباشرة.
ورأينا في مناظرة الخميس (بين أحزاب المعارضة) رفض زعيم المعارضة العمالية إدوارد ميليباند عرض زعيمة القوميين الاسكوتلنديين الديماغوغية اليسارية نيكولا ستراتيجون بالتحالف معها لإسقاط المحافظين (وانحياز واضح من مقدمي «بي بي سي» للفكرة) لأنها وضعته في موقف معاكس لحركة التاريخ. حزبها يريد تفكيك السلاح النووي البريطاني في زمن تمتلك فيه بلدان غير ديمقراطية السلاح الفتاك وإيران ضحكت على إدارة أوباما وفي طريقها لامتلاكه. ميليباند وجد مخرجا بطلبه من الزعيمة العالية الصوت تعهدا بعدم تفكيك وحدة الأمة والانفصال عن المملكة كشرط، فراوغت ولم تجب، ورفض الزعيم العمالي عرضها فارتفعت شعبيته.
أما قضايا الاقتصاد، والضرائب، وتمويل مصلحة الصحة القومية، والمهاجرين، والإسكان، فلم تحظ باهتمام صحافيين انشغلوا لعدة أيام بتحليل المناظرة وأي الزعيمين، الاسكوتلندية أم زعيم العمال، أوقع الآخر في الشرك. والمسؤول هنا عن وضع الاستعراض البهلواني في الفترينة وإخفاء البضاعة الجيدة في المخزن، الصحافة (التلفزيونية والمطبوعة المؤيدة لها) التي نسيت دورها كدرع الشعب الديمقراطي أمام مخادعات الساسة وتضليلهم.
التعليقات