حمد الماجد
كنت أتجول في حي لندني فيه كثافة سكانية عربية، رمقت محلاً صغيرًا يبيع الصحف وكتبًا عربية قليلة، وجرى نقاش موضوعي مع صاحب المحل بدا من أفكاره أنه شيعي، وكان كل كلامه ينصب على الوحدة الإسلامية وأننا جميعًا مسلمون لا فرق بيننا، فرمقت، وهو مسترسل في حديثه الوردي الطوباوي، كتابًا طائفيًا صارخًا عنوانه «ثم اهتديت» واضح من عنوانه أنه يحكي قصة رجل تحول من «السنّة الضالين» إلى «الشيعة المهتدين»، وهو ما ينسف بالكامل دعاوى هذا البائع!! فتذكرت المثل المعروف: «أسمع كلامك أصدقك، أرى حالك أتعجب»، وهو بالضبط ما ينطبق على الثورة الإيرانية وحكوماتها المتعاقبة محافظة أو إصلاحية التي ترفع عقيرتها ليل نهار بالوحدة الإسلامية وهي تفتتها بطائفيتها الصريحة.
إيران بعثت الطائفية من مرقدها من خلال تدخلاتها السافرة والفجة في سوريا والعراق واليمن ولبنان، هذا فضلا عن التغلغل الآيديولوجي في كل دول العالم الإسلامي عبر سفاراتها التي تحولت إلى مقرات تبشيرية أو داعمة له، بل لا أبالغ إذا قلت إن إيران هي التي تتحمل ردود الفعل الطائفية المرتدة من بعض العناصر المتطرفة في العالم السني، فلكل فعل رد فعل، وهذا ليس تبريرًا لأي أعمال طائفية ارتدادية، إطلاقا، فليس مقبولاً عقلاً ولا دينًا ولا عرفًا مبادلة الطائفية بالطائفية ولا القتل بالقتل ولا تدمير مكان العبادة بتدمير مكان عبادة مماثل، هذه حقيقة.. والحقيقة الأخرى أنه لا يوجد أمة مهما كانت قوتها ونفوذها أن تضبط ردود الفعل العنيفة لكل أتباعها، ففي كل عرق وجنس وملة ونحلة المتشدد والمتعصب والطائفي والمتهور والمتطرف، فمن استفز هذه الشريحة بطائفيته وتغلغله العسكري والسياسي والمذهبي، ومن استفزهم بتحرشه برموز المذاهب الأخرى وشتمها والإساءة إليها وإرباك نسيج الوحدة المذهبي المتناغم فيها، كما فعلت إيران في مصر ودول الشمال الأفريقي، فلا يفاجأ بردود فعل الطائشين والمتهورين والمتعصبين.
ولا نلقي تهمة بعث الطائفية على الثورة الإيرانية جزافًا أو من باب المناكفة السياسية أو المذهبية إطلاقا، بل ما نقوم به محاولة جادة لبحث جذور المشكل الطائفي الذي بات مهددًا خطيرًا على الجميع، لك أن تلقي نظرة مقارنة موضوعية وهادئة عن حال الطائفية بين السنة والشيعة قبل ثورة الخميني وبعدها، بإجماع السنّة والشيعة في العراق ودول الخليج كانت الطائفية بينهم شبه معدومة فتعايشوا قرونًا بأمان وسلام، يتزاوجون ويتاجرون ويتشاركون في الأفراح والأتراح، وكلهم يكرر كيف كان السنّة والشيعة يتجاورون سنين عددًا دون أن يعرف أحدهم عن جاره شيعي هو أو سني، حتى هبت رياح الثورة الإيرانية الطائفية العاتية فبدأت تتغلغل في العالم السني تحت شعار تصدير الثورة ورفع شعارات المقاومة والممانعة والوحدة الإسلامية، الشعارات التي تهاوت وبان زيفها على الثرى العراقي والسوري واليمني واللبناني.
نعم يا سادة، نحن لا نفتعل معركة كلامية أو عسكرية مع اليهودي لأنه يهودي ولا النصراني لأنه نصراني ولا الشيعي لأنه شيعي ولا حتى البوذي والهندوسي لأنهما كذلك، وإلا لما تعايشت معهم الحكومات المسلمة المتعاقبة منذ عهد النبوة حتى زماننا هذا، ولكننا أيضا نرفض من يرفع في وجوهنا كارت الطائفية الأحمر لمجرد أننا حذرنا من انتشار المراكز الشيعية التبشيرية في دول كل مسلميها سنّة، ونرفض من يتهمنا بالطائفية لأننا ننتقد حكومات إيران وهي ترعى بنفس طائفي صريح كل ميليشيا تقوض الأمن والسلم في العراق وسوريا واليمن ولبنان، ونرفض من يرمينا بتهمة الطائفية إذا انتقدنا من يرفع عقيرته ضد الطائفية وإذا رأى وطنه في حرب وجودية خنس وتوارى وصمت صمت القبور.
التعليقات