ياسر الصالح
&
محلياً.. كان في الثمانينيات جوٌّ مؤيّد للعراق وعدوانه على إيران.. الجو الغالب كان يدفع بمهاجمة إيران، وكان ينعتها بكافة النعوت والأوصاف العنصرية والتكفيرية، وكان يتمدد على كل الساحات السياسية والإعلامية، وكانت هناك فئة.. أقلية.. ترى غير ذلك، ولم يكن لها منفذ وصوت إعلامي، بل كان صوتها خافتاً في الدوائر الاجتماعية الضيقة، وبثلاثة أصوات في البرلمان.. هذه الأقلية ذات الرأي المختلف جرى طعنها في ولائها، وتمّ تكفيرها، والمطالبة بطردها وتسفيرها، وما إلى ذلك من مطالبات، عبر تصريحات وكتابات كانت تملأ الإعلام وتظهر تحت قبة البرلمان، وكان من أشرس تلك الأصوات في تلك الهجمة الأصوات «الإسلامية» التكفيرية.. فماذا كانت النتيجة؟!
&
نحن بالطبع لا نحتاج لسرد التاريخ لنتذكر، فالذكريات لا تزال حاضرة في الأذهان، ولا نحتاج لتبيان مَن كان على صواب، ومن جانبه الصواب فيما يخص الموقف من كل من العراق وإيران آنذاك، ولا نحتاج كذلك إلى سرد مآثر من كان ولاؤه لوطنه، إن بصموده فيه عند حدوث الغزو، أو في استخدامه لعلاقاته بالجوار ليوظفها لكسب التأييد للشرعية حينئذ. كما لا نحتاج إلى التذكير بمن كان يساوم على الشرعية في تلك الحقبة المفصلية.
&
الآن، وفي هذه الأجواء المستجدة على ساحتنا المحلية، هل نرى تكراراً لتلك الأجواء وتطابقاً في المواقف والاصطفافات يُنتِج تطابقاً في الصورة كما كان عليه الواقع المحلي في ذلك الوقت؟
&
يبدو الأمر، للوهلة الأولى، وكأنه يتجه إلى ذلك التطابق. ولكننا حين نتمعن، نرى أنه يوجد فارقان مهمان يمنعان من تكوّن ذلك الواقع الذي ساد في ثمانينات القرن الماضي..
&
الأول، هو التجربة التي مررنا بها كشعب في مرحلتين سابقتين؛ مرحلة الغزو والمرحلة التي سبقته، وهو ما تحدثنا عنها آنفاً، والتجربة الأخرى تتمثل في فترة السنوات الثلاث الماضية التي شهدت فيها البلاد أحداثا مفصلية خطيرة في تاريخها لا تقل خطورةً عن الغزو، وهذه التجربة تتمثل في محاولة الانقلاب على النظام الدستوري بالتنسيق مع الخارج ضمن أجندة صانعي «الربيع العربي» من دول عالمية وإقليمية وتنظيمات منضوية تحتها.. هذه الفترة التي سقطت فيها الأقنعة، وانكشفت فيها الرؤوس، وتجلت الضمائر على حقيقتها فيما يخص ولاءها وإيمانها بالنظام السياسي الدستوري الذي ارتضاه الشعبُ، واستعدادها للتعامل مع الخارج ضد الداخل.. ضد بلدها.. ضد النظام السياسي الدستوري الذي اختاره أهلها، فبان بالممارسة، وعلى أرض الواقع، مَن الذي حاول الانقلاب على النظام الدستوري، ومَن الذي اصطفّ مع الشرعية الدستورية ليدافع عنها، فقد كانت هذه الفترة محكاً حقيقياً كاشفاً للمعادن ومكنوناتها.
&
نعود الآن لواقعنا الحالي، بعد سردنا لهاتين التجربتين وأخذهما بالاعتبار.. فهل سنسمح لهؤلاء -الذين انكشفوا أمام الشعب- أن يعيدوا الكَرَّة ويصبحوا في هذا البلد ليوزعوه كما يشاؤون على من يريدون وليدخلوا البلد في نفق مظلم جديد بعد أن يحققوا هدفين خبيثين؟
&
الهدف الأول هو محاولة دخولهم مرةً أخرى في مفاصل الدولة بعد تقليصهم فيها وذلك بحجة أنهم يؤيدون سياسة الحكومة في نهجها في موضوع اليمن، ولكنهم في حقيقة الأمر يؤيدون أنفسهم وتنظيماتهم الخارجية التي يحاولون إعادة دعمها وإنقاذها من ورطتها بعد أن تم تحجيمها وشبه إنهائها هناك بكافة أطيافها التكفيرية «الإخوانية» و«الداعشية» و «القاعدية».
&
أما هدفهم الآخر، فهو دفع الحكومة لاستهداف المجاميع الشعبية التي وقفت ضد الانقلاب على الدستور، ووقفت مع الشرعية الدستورية، ويضعون بذلك حاجزا يفرّق بين هذه المجاميع الشعبية وبين الحكم مما يسهل عليهم التفرّد بكليهما في وقت لاحق حينما تحين الفرصة لهم مجدداً للانقلاب على النظام الدستوري!
&
إن موضوع الموقف من اليمن هو موضوع سياسي، كأي موضوع سياسي آخر، حيث ارتأت الجهات الرسمية تشخيصاً معيناً، وارتأى جزء من الشعب تشخيصاً آخر يدعو إلى ممارسة دور مشابه للدور العماني حاليا وهو الدور الذي سبق وأن مارسه صاحب السمو أمير البلاد في الموضوع البحريني قبل سنوات، وطرح هذا الرأي يتم تحت مظلة الدستور، والنظام الدستوري، وحرية الرأي التي كفلها الدستور، بلا تعدٍّ على النظام الدستوري، ولا تعدٍّ على المقامات والمراكز التي كفلها الدستور، ودون محاولة لتقويض هذا النظام بأي طريقة كانت.. وحتى المطالبة بعرض المرسوم على مجلس الأمة هو اجتهاد قانوني دستوري يتم تقديمه ضمن القنوات الدستورية التي قد تأخذ به او لا تأخذ، كل ذلك يتم ضمن الآليات المتبعة في المؤسسات الدستورية، كأي أمر دستوري آخر.
&
من كل ما سبق يتضح بأن نظامنا الدستوري، إذا تمّ التعامل من خلاله، فإنه هو ما يضمن مسيرة البلد الصحيحة، ويضمن حقوق الجميع، ويتبيّن بأن كل هذه الجعجعة، لا تصدر عن محبٍّ لهذا البلد ونظامه الدستوري الذي ارتضاه الشعب؛ بل تصدر عن أشخاصٍ وجهاتٍ وتنظيماتٍ انكشفت أمام الساحة الشعبية والرسمية، فعلمت سرائرهم وخبرت أفعالهم المشينة.