سمير عطا الله

كان خورخي لويس بورخيس، شاعر الأرجنتين، يقول إنه قبل أن يسافر إلى مدريد كان في دمائه الكثير من إسبانيا. تحملنا الآداب إلى الأمكنة قبل أن نذهب إليها، وأحيانا، حتى لو لم نذهب إليها. والعربة السحرية هي اللغة. لذلك كان أدباء لبنان «يعرفون» فرنسا ويعشقون باريس. وكان أدباء العراق يعرفون بريطانيا، وأدباء فلسطين. وجميعهم كرهوا الاستعمار وأحبوا لغته كما هو شأن الجزائريين مع الفرنسية. وكما كانت حال جميع العرب مع أمكنة مصر التي عرفوا حجارتها وأزقّتها ومقاهيها وعواماتها من الروايات.


ولا أدري من هو الصحافي، أو الكاتب، الذي لم يذهب مرة إلى مقهى ريش أو مكتبة مدبولي، أو خيل إليه أنه يرى نجيب محفوظ يتناول الشاي في الجانب الآخر من مقهى الفيشاوي. وقد أعطى المفكر منح الصلح المقهى طابعًا آخر: ليس طابع الرومانسية والشعراء والكتاب، كما كان حال «الهافانا» في دمشق، وإنما طابع النقاش السياسي الرفيع. خصوصًا وأن بيروت في تلك المرحلة، كانت خالية من «الآذان الصاغية» ولم تكن قد استعربت تمامًا. وما لم يكن أكرم الحوراني قادرًا على قوله في دمشق، كان يعقد عليه مجلسًا يوميًا في مقاهي الروشة أو الحمراء. وما كان ممنوعًا على علي صالح السعدي أن يتفوَّه به في بغداد، كان يسامر عليه في «الهورس شو»، حيث تحوَّل المنفيون السياسيون العرب، إلى جزء من جاذبية المكان وصورته.


يتخذ المكان في المخيلة حجمًا مختلفًا وصورة أخرى. عندما ذهبت إلى مقهى «ريش» أول مرة، في جولة على أهرامات للأدباء، رأيت هناك الزميل خيري منصور، أثناء إقامته في القاهرة. وكانت معه مجموعة قليلة من الصحافيين الذين لبعضهم شهرة على كرسي المقهى، أكثر من شهرته في المهنة. وخطر لأحدهم يومها أن يستقبلني بنكران وجودي. ومع أن المقهى كان خاليًا يومها إلا من عمال الصيانة، فقد نظر المشار إليه إلى الصالة يتأكد من أنني لن أجد طاولة أجلس إليها. كان «ريش» يومها ينفض ريشه ويجدد جدرانه ويعيد النظر في أحواله وفي رواده. ولا أعرف بعد ذلك ماذا حدث للمشار إليه، ولا للغبار الذي خلفه. لكن الزميل خيري منصور ما لبث أن ترك القاهرة عائدًا إلى عمان، من دون أن يتغير شيء في ثراء كتاباته.


ولا فكرة لدي عن مقاهي عمان. فلما زرتها عام 1965، كانت لا تزال عاصمة صغيرة، محدودة المطاعم والفنادق، وأقرب مقهى في بيروت. لكنها كانت تضم الكثير من الأدباء والصحافيين، كما كانت تنافس بغداد في الإقبال على القراءة. وذلك زمن كانت فيه أرقام توزيع المجلات خيالية حقًا في كل العالم العربي. «صباح الخير» و«روزاليوسف»، و«الحوادث»، و«الصياد»، وحتى المجلات الأدبية التي أغلقت جميعها الآن. فقد انقرض أديبها ومعه قارئها. وانقرضت مع الاثنين مرحلتهما وشغفهما وحيويتهما. وحلت الغزارة في الصحف اليومية محل ذلك المناخ الهادئ الذي أزالته سرعة العصر.