عبد الوهاب بدرخان

أصبح الحذر ضرورياً جداً إزاء المتداول من الأخبار عن تحركات تنظيم «داعش»، تقدمه وتراجعه، نجاحاته وإخفاقاته، وإقبال مزيد من الأجانب إلى صفوفه أو إعراضهم عنه. والسبب في استدعاء بالغ الحذر أن الحكومات المعنية مارست الكثير من التضليل الإعلامي إخفاءّ لعجزها. ثمة تقارير اقترحت قبل أسبوع أن بيانات «داعش» كانت أكثر دقة، فهي تبلغ عما يحصل بمعزل عن الفظاعات التي يمكن أن تتضمنها. والسبب الآخر أن الجميع يرى ويسمع ما يحدث. مع ذلك تحدثت بغداد مثلاً عن حملات تعدها ضد «داعش» ولم تشر إلى تقدّمه، أما دمشق فصوّرت انسحاب قواتها من تدمر و«إنقاذها» ما استطاعت من آثارها - ومن سجنائها - كما لو أنه فوز على التنظيم الذي احتل المدينة. وحتى «البنتاجون» أعلن مراراً أن «داعش» ضعف وأصبح في «موقف دفاعي».

ورغم أن مصادر البيت الابيض تحدّثت عن «مراجعة للاستراتيجية» المتبعة في الحرب على الإرهاب، إلا أن الرئيس الاميركي قال في مقابلته مع مجلة «ذي اتلانتيك»: «لا أعتقد أننا نخسر». لا يريد أوباما تغيير استراتيجيته التي يتزايد عدد الخبراء الذين يعتبرون أنها لا تفلح ولا يمكن أن تفلح، بل إنها تفيد طرفين آخرين مستفيدين منها، وهما لا يغيّران أيضاً استراتيجيتيهما: فهناك إيران من جهة، إذ تصرّ منذ البداية على التنسيق معها لتتولّى هي الحرب على الأرض، فيما تتولّاها الولايات المتحدة و«التحالف الدولي» من الجو. وهناك من جهة أخرى تنظيم «داعش» نفسه الذي لم يبدّل خططه، ورغم الأربعة آلاف ضربة جوية التي تلقّاها والهزائم التي مُني بها لا يزال حاضراً وجاهزاً لانتهاز أول فرصة سانحة كي يتوسّع جغرافياً.

&


سيكون على أعضاء «التحالف الدولي»، خلال لقائهم اليوم في باريس، أن يتصارحوا أكثر في ما بينهم، وأن يعتمدوا الشفافية تجاه الرأي العام. لا يمكن ادّعاء الفاعلية حيث لم تظهر إلا لماماً، ولا يمكن اللعب بالاعلام، لأن الكذب ينكشف بسرعة. فالمهم أن يثبتوا حرصهم على الإنجاز، إذ لم يعد مفيداً تكرار أن الحرب ستكون طويلة، لأن أحداً لا يسأل اليوم متى تنتهي، وإنما لماذا تسقط الرمادي بالسيناريو نفسه كما سقطت الموصل، وكيف أمكن لـ «داعش» أن يجتاز مسافة طويلة مكشوفة في الصحراء ليغزو تدمر من دون أن يراه طيران «التحالف». والأهم أن ترى حكومة بغداد مدى حزمهم في التزام الشروط التي حدّدوها بأن تواكب الحرب مساعٍ جدية من أجل مصالحة وطنية، وأن يحسموا أمرهم في ما يتعلّق بهذه المعارضة السورية «المعتدلة»، التي يتحدّث الأميركيون منذ سنوات عن تسليحها وتدريبها والاعتماد عليها في هزم «داعش». ففي نهاية المطاف لا بدّ من قوات برية للقيام بالمهمة، وليست هناك أي دولة في «التحالف» مستعدّة لإرسال جنودها إلى حرب كهذه. إذاً، فالمطلوب أن يتصارح «الحلفاء» وأن يزيلوا الشكوك المتزايدة حول أهدافهم ونياتهم.

بين السقوط الثاني للجيش العراقي أمام «داعش» في الرمادي، وسقوط قوات النظام السوري في «تدمر»، وإصرار الرئيس الأميركي على استراتيجيته، يترسّخ انطباع بأن الولايات المتحدة تبدأ مع «داعش» في سوريا والعراق ما انتهت إليه مع «طالبان» في أفغانستان، أي أنها تقرّ بواقع وجودهما وبقائهما واستمرارهما. وفي أي حال، يتأكد أكثر فأكثر أن «داعش» ماضٍ في اختراق «طالبان»، وفقاً لقائد مهمة الحلف الأطلسي الذي يؤكد أن هناك تجنيداً في أفغانستان وباكستان، لأن «داعش يدفع ضعف ما تدفعه طالبان». وما قصده أوباما دائماً هو ما أفصح عنه وزير دفاعه، أي أن أميركا لم تعد تريد أن تقاتل من أجل أحد، كانت لديها مشكلة تخلّصت منها بالانسحاب من أفغانستان، والآن «لدينا مشكلة في أن القوات العراقية لا تبدي إرادة للقتال. نستطيع أن نقدّم إليها التدريب والتجهيزات، إلا أننا بالتأكيد لا نستطيع أن نقدّم إليها إرادة القتال»، كما قال آشتون كارتر.

هذا لا يعفي الولايات المتحدة من مسؤولية مديدة، فهي استخدمت «المجاهدين» الأفغان و«الأفغان العرب» ثم رمتهم، والآن تستخدم «داعش»، في أدوار ووظائف متناقضة. لكن اللعبة التي مرّت بصعوبة في أفغانستان قد لا تصلح في الشرق الأوسط الأكثر تعقيداً. فكلما طالت سيطرة «داعش» وجرائمه الوحشية، وطالت الحرب عليه معطوفة على حرب أهلية، كلما ترسّخ في الأذهان أن تعايش الفئات بات مستحيلاً، وأن خرائط الدول في صدد أن تتمزّق. فهل هذا هو الهدف؟
&