&عبدالله بن بجاد العتيبي

&

نقل ما كان يعرف بالربيع العربي المنطقة إلى وهادٍ من التخلف والأصولية والإرهاب لم تكن حاضرةً بهذا القدر الطاغي قبله، لقد أصبحت معارك الإرهابيين والطائفيين تملأ المنطقة حتى صار البعض يفاضل بين الإرهابيين والطائفيين، فهذا خيرٌ من ذاك، وهذا معنا وذاك ضدنا.
والصحيح أنهم جميعًا إرهابيون مجرمون طائفيون يجب ألا يماري في ذلك عاقلٌ، ورهانات الواقع المبنية على الوعي تحتم هذا الموقف الذي لا يميز بينهم إلا بحثًا عن مزيدٍ فهمٍ لتشظيات الإرهاب والطائفية والأصولية ومقدار كل طرفٍ منها، لقد أصبح خامنئي وروحاني ونصر الله والحوثي وأيمن الظواهري وأبو محمد الجولاني وأبو بكر البغدادي يتنافسون في الإرهاب. إن الحل لا يمكن أن يكون في أي من ضفاف العمائم الهائمة بالعنف والإرهاب والزارعة لبذوره، بل في الوعي والعقل والواقعية والتعايش والتسامح.
وقابلت قناة «الجزيرة» قائد «جبهة النصرة» في بلاد الشام، أي فرع تنظيم القاعدة في سوريا، أبو محمد الجولاني، وقد تطرق في حديثه للكثير من المواضيع التي تفتح أبوابا لمن يريد مزيد فهمٍ لتباينات أطياف الإرهاب ودرجات جرائمه.
في الموقف من جماعة الإخوان المسلمين طلب منهم العودة لأصولهم الإرهابية القديمة وتنظيرات حسن البنا وسيد قطب، وقال إنهم في «جبهة النصرة» يدرسون في مدارسهم جماعة الإخوان المسلمين كجماعةٍ إرهابيةٍ، أو «جهاديةٍ» حسب تعبيره، وأنهم يدرسون أفكار وكتب سيد قطب، ولم يشر إلى أن الكثير من أتباع الجماعة قد عادوا إلى الإرهاب في مصر وتحالفوا مع الجماعات الإرهابية أثناء حكمهم في مصر وبعد سقوطه.
بدا الجولاني في حديثه هادئًا ومنظم الأفكار ولديه خلفيةٌ تاريخيةٌ لتاريخ المنطقة القديم وصراعاتها الضاربة بأطنابها في عمق التاريخ، مع إلمامٍ بتفاصيل التحركات العسكرية للفصائل المقاتلة في سوريا بحكم عمله الميداني، ولكنّه حين الحديث عن الرؤية السياسية لما يجري كان يصدر عن رؤيةٍ مؤامراتيةٍ تنهل من نبع الخطاب الإخواني وخطاب الإسلام السياسي.
حاول الجولاني جاهدًا أن يظهر كحملٍ وديعٍ وأن يخفي الوجه القبيح لتنظيم القاعدة الإرهابي، وربما ساعده على ذلك حرص محاوره على عدم استفزازه بالأسئلة المحرجة التي توضح البعد الإرهابي الصارخ في خطابه، وهو تجنّب الحديث عن تفاصيل عقائدية آيديولوجية تحكم جماعته وتظهرها كما هي، وكان يتجنب الحديث عنها والتعمق فيها، إما لقلة بضاعته من معرفة المنظومة التراثية التي يستند إليها تنظيم القاعدة، وإما لحرصه على عدم الخوض فيها حتى لا يلجأ لإظهار معتقده.
ولأنه إرهابي مقاتل وليس سياسيًا فقد وقع في التناقض، فهو قال ضمن خطابه المؤامراتي منتقدًا أميركا إن «أميركا خلفت حالة من الاضطراب ستبقى قائمة في المنطقة»، ثم رجع في آخر الحوار ليصرّح بتكفير تنظيمه للدول العربية والحكّام العرب، وأن طريق الخلاص بالنسبة له يكمن في نشر الفوضى والاضطراب في الدول العربية المستقرة.
عندما يختلف المتشابهون يمكن رصد الفروق، والجولاني بحديثه عن تنظيم داعش أظهر أن الخلافات بين «القاعدة» و«داعش» إنما هي في الدرجة لا في النوع، وفي أمورٍ تتعلق بمكاسب التنظيمات لا في الخطاب ولا في المفاهيم الحاكمة ولا في آليات التجنيد والتفجير والتخريب، ولكنه أثبت بصراحةٍ ما يشكك فيه بعض غير المختصين من أن «داعش» تدافع عن نظام بشار الأسد في سوريا، وأنها تحالفت معه في الكثير من المعارك، وأنها لم تزل تعمل على حمايته.
أعاد الجولاني تأكيد حرص الظواهري على عدم استهداف حلفاء إيران في العراق وتحديدًا شيعة العراق، وهو ما عبرت عنه سابقًا رسالة الظواهري الشهيرة إلى الزرقاوي قائد تنظيم القاعدة في العراق بعدم استهداف الشيعة، وقال إن الظواهري ينهاهم عن استهداف «الحسينيات»، وهو على الرغم من حديثه الطويل عن الإمبراطورية الفارسية، فإنه لم يتطرق صراحةً لعمق العلاقة التي تربط تنظيم القاعدة بالجمهورية الإسلامية في إيران، وتحالف قيادات الطرفين في مهاجمة الدول العربية.
الكثير من المواقف التي عبّر عنها الجولاني إنما تتحدث عن مرحلةٍ مؤقتةٍ بحسب حديثه، أي أنه عرض مواقف تتعلق بالأقليات لا تتفق مع خطاب تنظيم القاعدة الإرهابي، ولكنه يبرر ذلك باللحظة التاريخية التي يعيشها تنظيمه لا بالآيديولوجيا التي تشكل عصب التنظيم وسقف طموحه ومدى رؤيته.
لم يكن الجولاني صادقًا في حديثه عن «التكفير» و«استباحة الدماء» وما نقله عن الظواهري من توجيه بعدم استهداف «الأسواق» لا يتسق مع أفعال تنظيم القاعدة، فالجميع يتذكر كيف كان تنظيم القاعدة في السعودية يستهدف المسلمين والمقيمين ويقوم بتفجير المجمعات السكنية على رؤوس أصحابها، ويقتل الناس ويستهدف النساء والأطفال والشيوخ.
من أراد أن يعرف توجهات بعض الجماعات وبعض الرموز المنتسبين للإسلام السياسي، فليس عليه أن يتوجه لـ«داعش» بل يسألهم عن موقفهم من تنظيم القاعدة و«جبهة النصرة»، لأن ذلك يبين عن الموقف الحقيقي من الإرهاب، لأنه من السهل على بعضهم أن يندد بشِنَعِ تنظيم داعش، ولكنه متفقٌ مع شنع تنظيم القاعدة، والذاكرة حاضرةٌ بمواقف العديد منهم من المجرم الإرهابي أسامة بن لادن، ومن هنا فإنك لن تجد منهم من يكون معنيًا بالرد على الجولاني أو فضح خطابه وتنظيمه.
الموقف من «الأقليات» مفصلٌ مهمٌ لمعرفة الخطاب الإرهابي، وهو تحدث عن المسيحيين والدروز والعلويين وكأنه من دعاة المدنية والتحضر، ولكنه حصر كل ذلك في موقفٍ «تكتيكي» تحكمه الموازنات التي تفرضها طبيعة المعركة في سوريا، وسكت عن الموقف «الآيديولوجي» الذي سيبيد تلك «الأقليات» في حال «التمكين»، كما هو معروفٌ في خطاب تنظيمه وجماعته.
أوضح محاور الجولاني أحمد منصور بأنه تجوّل في المناطق التي تسيطر عليها «جبهة النصرة»، ودخل المدارس التابعة لها ومراكز التدريب، وفي جبهات القتال، ورصد تشابهًا كبيرًا مع جماعة الإخوان المسلمين، وهي ملاحظةٌ صحيحةٌ تؤكد العلاقات الوثيقة بين الطرفين.
أخيرًا، فإن الصراع الكبير في المنطقة وبكل أبعاده المحلية والإقليمية والدولية، وبكل مستوياته السياسية والاقتصادية والثقافية، يحتم على أي مراقبٍ أن يأخذ بعين الاعتبار خطاب الجماعات الأصولية والإرهابية والطائفية التي باتت تشكل قوى على الأرض، وأن يدرس كيف أصبح كثيرٌ من الناس قابلاً للخديعة من قبل «القاعدة» اتقاءً لـ«داعش».