باسم فرنسيس

&

&

&

&

&


&

&

مع حلول الذكرى الأولى لسقوط مدينة الموصل، تنتاب النازحين المسيحيين في بلاد ما بين النهرين هواجس البقاء في ظل مشهد يسوده مستقبل مبهم، أو المغادرة إلى نحو عالم يجهلون حدوده وثناياه.

ويستعيد مسيحيو نينوى اليوم مشهد دخول مسلحين تنظيمَ ما يعرف بـ «داعش» أو «دولة الخلافة في العراق والشام» في حزيران (يونيو) العام الماضي، فارضاً شريعة لا تؤمن بالمساومة، إما إشهار إسلامهم أو دفع الجزية أو المغادرة، بعد تجريدهم من أموالهم وممتلكاتهم، وقرروا النزوح إلى مدن إقليم كردستان القريبة، ليخلفوا وراءهم أرض الأجداد التي احتضنتهم لقرون. ويواجه مسيحيو الموصل ومناطق سهل نينوى الذين تقدر أعدادهم بنحو 130 ألف شخص، أوضاعاً إنسانية صعبة، إذ يعيش معظمهم في مخيمات ومبانٍ قيد الإنشاء تفتقر إلى مقومات السكن، وتحت أعباء ظروف اقتصادية متردية، ومعدلات بطالة مرتفعة.

ويعتبر هؤلاء ما يتلقونه من مساعدات عبر الكنائس والمنظمات الإنسانية، حلولاً «ترقيعية».

يقول يوسف حنا، في العقد الخمسين من عمره: «كنا في الموصل قانعين رغم الاستقرار الهش، ونمارس حياتنا اليومية، لكننا اليوم فقدنا ذلك البصيص من الأمل وما جنيناه من تعب السنين، وهنا نحتار بين البقاء الذي نفتقر فيه إلى أبسط الحقوق، أو الهجرة التي تتطلب أموالاً طائلة يصعب تأمينها بعد أن سلب منا آخر قرش، كما لا يمكن تصور رحلة يصعب تحديد وجهتها، والأبواب قد أوصدت بوجوهنا».

&

نزيف الهجرة

ويتحدث زميله الياس عن محنته: «حين خرجنا ذلك اليوم، حصلنا على وعود وتطمينات بالعودة سريعاً، لكننا عشنا شهوراً أحلاها مر، البعض لم يكن يملك ثمن شراء الدواء، وبعد عام لم يتغير شيء، هل من أحد يمكن أن يحدد شكل المستقبل الذي ينتظرنا؟ وهل يمكن أن نجد من نصدقه؟».

ويجمع كثير من المسيحيين على أن الشعور بـ «اليأس» من الحاضر والمستقبل نتيجة الشرخ الذي أصاب النسيج الاجتماعي والتوترات الاقتصادية والسياسية وغياب حاضنة للمسيحين، عناصر حاسمة لدفع أبناء الديانة إلى الهجرة، حتى وإن تحقق ذلك على المدى المتوسط.

تشير تقديرات كشف عنها رجال دين مسيحيون ومنظمات حقوقية، في نيسان (أبريل) الماضي، إلى أن نحو 5 إلى 7 أسر مسيحية تهاجر بمعدل يومي في أعقاب نزوح أكثر من 100 ألف مسيحي من الموصل ومناطق سهل نينوى هرباً من تنظيم «داعش». كما تفيد التقارير بأن الوجود المسيحي في العراق بات مهدداً فعلاً في أعقاب تراجع أعدادهم إلى أقل من 500 ألف، بعد أن كانت تتجاوز المليون ونصف المليون قبل الغزو الأميركي العراق عام 2003.

وكشف مطران أبرشية ألقوش ميخائيل المقدسي عن «مخطط خارجي يعمل على تشجيع المسيحيين على الهجرة، والتي ألحقت ضرراً بالغاً بهذا المكون الأصيل وما زالت مستمرة، على رغم وجود غالبية تتمسك بالبقاء، خصوصاً في سهل نينوى»، وأضاف: «لا نشجع على الهجرة بالمطلق... كما لا يمكننا منعها».

&

أفق ملبد

مسيحيو إقليم كردستان يشاركون قلق أقرانهم النازحين إزاء المستقبل، ويدور هذا القلق حول استمرار تهديد «داعش» الذي يشارك في الحدود مع الإقليم، إضافة إلى تزايد التشدد الديني وتوسعه، خصوصاً بعد إعلان سلطات الإقليم اعتقال خليتين غالبية أعضائها من الأكراد، وأعضاء إحدى الخليتين اعترفوا بالوقوف وراء تفجير سيارة مفخخة قرب القنصلية الأميركية في ناحية عنكاوا ذات الغالبية المسيحية، وأقروا بأنهم انخرطوا في صفوف «داعش» تحت تأثير خطب لرجال دين من الإقليم، وتزامن ذلك مع إجراءات احترازية اتخذتها تلك السلطات منع خلالها تداول الكتب الدينية السلفية، ونقل إدارة المدارس الدينية إلى وزارة التربية بدل وزارة الأوقاف.

وينتاب شرائح أخرى في المجتمع المسيحي القلق من صعوبة تحقيق التجانس مع محيط يواجه صعوبة في مواجهة التشدد، في ظل غياب قوانين وتشريعات ومواد دستورية ضامنة حقوقَ الأقليات ويضعها في خانة «المساواة»، على المستويين العراقي والكردي.

وبغية تبديد هذه المخاوف تبذل القوى السياسية المسيحية في إقليم كردستان مساعي لضمان حقوق المسيحيين في مسودة دستور الإقليم التي باشر البرلمان الكردي بإجراء تعديلات على بنودها، وينظر مسؤولون مسيحيون إلى المسودة السابقة على أنها «صيغت لتوائم الغالبية الكردية».

&

دستور مدني

القوى المسيحية تأمل توظيف «التعاطف الدولي» مع محنة المسيحيين، لضمان حقوق هذا المكون والحد من تبعات هجرة أبنائه المستمرة، والتي بلغت معدلات غير مسبوقة طوال تاريخ وجود المسيحيين في وادي الرافدين، وفق ناشطين مسيحيين.

وحصلت الأقلية المسيحية على مقعد واحد من أصل 21 مقعداً في لجنة تعديل مسودة الدستور التي شكلها البرلمان الكردستاني في نيسان الماضي، والتي يفترض أن تعمل وتجري تعديلاتها اعتماداً على صيغة «التوافق» بين القوى السياسية.

رئيس كتلة «أبناء النهرين» في برلمان الإقليم سرود مقدسي، انتقد مسودة دستور الإقليم، قائلاً: «إن مضامين المسودة التي أعدت قبل عام 2009 شكلت غبناً وإجحافاً بحق الأقليات، وقد صيغت وبنيت على وجهة نظر كردية بحتة أكثر من كونها كردستانية، باعتبار الإقليم يضم الكثير من المكونات العرقية والقومية والدينية، ففي ديباجة الدستور تم ذكر المظالم التي لحقت بالشعب الكردي، في حين لم يتم التطرق إلى المظالم التي لحقت بالكلدان والسريان والآشوريين، خصوصاً مذابح سميل وصوريا التي تعرضوا لها أوائل القرن الماضي».

ويرى مقدسي أن «العلم والنشيد، يجب أن يكونا شاملين وجامعين كلَّ المكونات، وعدم حصره بفئة محددة، لكونهما يرتبطان بمسألة الهوية ودرجة المواطنة، والنشيد الحالي يقول نحن أحفاد (الميديين وكي خسرو)، إذاً ما هو وضع وموقع أحفاد البابليين والآشوريين».

كما ينبه إلى المادة 35 من المسودة التي تتحدث عن حقوق المكونات، قائلاً: «هي معطلة كلياً فهي تشير صراحة إلى الحقوق الإدارية والسياسية للكلدان والسريان والآشوريين بما فيها الحكم الذاتي في المناطق التي يشكلون فيها أكثرية سكانية. هي وضعت بصيغة غير قابلة للتنفيذ عملياً بسبب عدم وجود تلك الغالبية في منطقة محددة، فمضمون هذه المادة تعجيزي، ويتطلب تعديلها لتكون قابلة التطبيق».

ويدعو مقدسي إلى استحداث مجلس أعلى لشؤون المكونات للمساهمة في تطبيق البنود والمواد الخاصة بحقوق الأقليات سواء في الدستور أو القوانين النافذة، وإلى إجراء تعديلات على مواد الأحوال الشخصية لإزالة الغبن الحاصل، والتشديد على بناء الدستور وفق المبادئ المدنية والعلمانية «للنظر بعين المساواة إلى الجميع».

مقدسي عبّر عن اعتقاده بإمكانية تحقيق غالبية تلك المطالب بالاستفادة من توجهات المجتمع الدولي ورؤيته لإقليم كردستان الذي يريده أن يصبح تجربة فريدة في المنطقة بخصوص الديموقراطية وحقوق المكونات.

لكن كثراً من المسيحيين لا يشاركون مقدسي تفاؤله. يقول فادي كوركيس: «الأحزاب المسيحية لا تملك مشروعاً واضحاً لضمان حقوق المكون المسيحي ولها تحمل مطالب محددة، فهناك خلافات عميقة في وجهات النظر، ومن جهة ثانية مسودة الدستور الكردستاني لن تتغير كثيراً، ولن تكون هناك فرصة لمساواتنا مع الكردي المسلم، كما لن تكون هناك فرصة لإقامة مناطق إدارة مسيحية، معظم السياسيين الكرد يرفضون تلك الفكرة بتاتاً».

وعلى رغم أن مراقبين ونشطاء مسيحيون، يرون عدم جواز حصر أسباب هجرة المسيحيين وربط مصير وجودهم بالتشريعات والقوانين فقط، فإنهم يشددون على تعديل المسودة في الشكل الذي يضمن إنشاء مناطق إدارة ذاتية للمسيحيين، والاتفاق على اختيار نشيد وعلم جامعين كلَّ المكونات.

يضيف إلى تلك «المرتكزات»، المحامي المسيحي سركون يعقوب، مطالب أخرى تتمثل بإضافة مواد وفقرات جديدة للمسودة تتلاءم والمتغيرات التي طرأت خلال السنوات الماضية، والمتعلقة ببعض القوانين المدنية والأحوال الشخصية، منبهاً: «من دون ذلك لا تمكن طمأنة المسيحيين في شأن مستقبل وجودهم».

&

خلافات وتشكيلات أمنية متعددة

لا تقتصر مشاكل المسيحيين على تهديدات «داعش» المستمرة والتجانس المجتمعي المفقود والحقوق التي يمكن أن تمنح لهم في الإقليم، فهناك أيضاً الخلافات بين القوى المسيحية ذاتها في شأن طبيعة «الحل السياسي والصيغة الإدارية» التي تنقذ هذا المكون من الفناء في العراق.

تلك الخلافات برزت أخيراً إزاء موضوعة تشكيل قوات عسكرية خاصة بالمسيحيين تتولى تأمين مناطقهم بعد تحريرها من «داعش»، فبعض الأحزاب المسيحية أعلنت منفردة عن تشكيل أفواج عسكرية من المتطوعين، وهو مؤشر على عدم فاعلية تلك الخطوة وتشرذم تلك التشكيلات العسكرية، مع عدم حسم ارتباط تلك التشكيلات بوزارة البيشمركة أو بوزارة الدفاع العراقية أو الحشد الشعبي.

يقول السكرتير العام لحزب «بيت النهرين الديموقراطي» روميو هكاري أن «ما حدث من تهجير للمسيحيين على يد داعش، دفع إلى بلورة فكرة جديدة في برنامج الأحزاب السياسية الكلدو - آشورية، تمثلت بضرورة المشاركة في الجانب الأمني والعسكري بخاصة في مناطق انتشار المسيحيين، ونحن كنا أول من طرح هذه الفكرة على الأحزاب الأخرى بعد الكارثة لتشكيل قوة مشتركة، لكن للأسف لم نفلح، ما دفعنا إلى تشكيل قوة بجهود ذاتية وفي شكل قانوني بالمشاركة مع حزب اتحاد بيت النهرين».

الخطوة ذاتها أقدمت عليها قوى مسيحية أخرى، وأيضاً في شكل منفرد سواء بالاتفاق مع حكومة بغداد أو حكومة أربيل. وهو ما يعكس الانقسام السياسي المسيحي حتى في ما يتعلق بأمن مكونهم ومناطقه. فقد أعلنت الحركة الآشورية الديموقراطية، وهو الحزب السياسي الرئيسي للآشوريين في العراق، في كانون الأول (ديسمبر) 2014 عن تشكيل قوة مسيحية للدفاع عن المسيحيين من هجمات تنظيم «داعش» والمساهمة في استعادة الأراضي التي احتلها التنظيم.

هذه الخلافات لم يخفها هكاري «قوة الأحزاب الكلدو - آشورية هي في وحدتها وطرح مطالبها بسلة واحدة من دون إعطاء ثغرات من شأنها أن تضعف موقفها، هكذا سيكون لنا تأثير أكبر وسيعزز ثقة أبناء المكون، وبعكسه ستظهر آثار سلبية نحن بغنى عنها، لكننا متفائلون استناداً إلى اللقاءات التي عقدت أخيراً».

وعادة ما تتألف تلك القوى العسكرية من بضعة مئات من المقاتلين المحدودي التدريب والتجهيز.

وقال رئيس الحزب «الوطني الآشوري» عمانوئيل خوشابا أن الأحزاب المسيحية «بدأت بعقد سلسلة اجتماعات لبحث النقاط المهمة والمتعلقة بحقوق الشعب المسيحي عموماً باعتباره صاحب أرض وأصالة، منها شكل وجوده، وعدم ذكره في ديباجة الدستور، علماً أن كل المكونات قد تم ذكرها».

وأضاف أن «للمسألة اتجاهين، الأول يتمثل في كوننا مواطنين نملك خصوصية، والثاني يتعلق بالبعد الوطني في شكل عام وأهمية تجسيد المدنية لخلق مجتمع علماني، كما أن مسألة التسمية ستكون نقطة مهمة أيضاً».وأوضح خوشابا «نحن اليوم نتطلع إلى تشكيل قوات لحماية مناطق سهل نينوى وجعلها منطقة محمية، ولكن ذلك يبقى رهن تطبيق المادة 140 من الدستور العراقي والمتعلقة بالمناطق المتنازع عليها بين أربيل وبغداد، وكذلك الموقف النهائي لكل من الطرفين حول آلية التطبيق».

القوى السياسية المسيحية التي تعقد اجتماعات دورية في محاولة لتوحيد الخطاب والرؤى في شأن حقوقها ومطالبها الدستورية والسياسية والإدارية، إلا أن بعض الأوساط الشعبية المسيحية ترى أن هذه القوى أخفقت في شكل كبير في التقليل من معاناة المسيحيين في شكل عام.

وإزاء ذلك يذكر بهجت سمير أن «الموضوع لا يتعلق بخطاب ديني عاطفي ولا برؤى سياسية مختلفة وبحقوق يمكن أن تجد طريقها للدستور ولا بأمن مفقود قد يتوافر مستقبلا، بل بالتجانس الهش والتعايش الذي تضيق مدياته يوماً بعد آخر».

&

&

* أنجز هذا التقرير بالتعاون مع منظمة منظمة دعم الإعلام الدولي (I.M.S)
&