عوني صادق
منذ فشل المهمة التي وضعت على كاهل وزير الخارجية الأمريكية جون كيري في صيف العام الماضي، تجمدت المفاوضات المباشرة بين السلطة الفلسطينية والحكومة «الإسرائيلية»، وتدهورت العلاقات بين إدارة الرئيس باراك أوباما ورئيس الحكومة «الإسرائيلية» بنيامين نتنياهو، وتحركت السلطة الفلسطينية على المستوى الدولي، وإن لم تحقق إنجازاً يذكر. وفي الأثناء، تابع المستوطنون الصهاينة بدعم من حكومتهم بناء المستوطنات ومصادرة الأرض الباقية، وسَن القوانين والتشريعات العنصرية لاستكمال تهويد القدس. واكتمل المشهد بانتخابات الكنيست العشرين التي حملت معها أكثر الحكومات «الإسرائيلية» تطرفاً وعنصرية وشهية لمشاريع الاستيطان، الحكومة «الإسرائيلية» الرابعة والثلاثين، حكومة نتنياهو الرابعة.
في غضون ذلك، اتضح للجميع أن ما يسمى «عملية السلام في الشرق الأوسط» لم تعد تشغل بال القوى الكبرى التي انشغلت بالتطورات التي أحدثتها الهبات الشعبية في إطار ما يسمى «الربيع العربي»، وأصبح «داعش» و«إنجازاته»، وتداعيات تفكك الدول العربية شاغلها الأول، والحديث عن رسم خرائط جديدة لها هو ما يتقدم في «استراتيجية» الغرب للمنطقة العربية، مع تراجع الاهتمام بالصراع العربي - الصهيوني وقضية فلسطين، وإن ظل الاهتمام ب«أمن إسرائيل» هو الأساس. وأيقن الجميع أن ما يسمى «حل الدولتين» قد تلاشى في المنظور الواقعي، ولكن لا بد من إبقائه عنواناً فارغاً من المضمون يستدعى للأبقاء على وهم بقضية معلقة وغير مستعجلة، ووهم آخر بحل لا تتوفر شروطه.
على هذه الخلفية التي تركت أصل قضايا المنطقة في الفراغ، تحت زعم أن الولايات المتحدة قررت الانسحاب من المنطقة، رغم أن الوقائع تنفيه، صار لزاماً أن يقوم طرف، لا بد أن يكون غربياً، بتحمل «المهمة»، وكان ليس أولى، أو أجدر من أن تكون فرنسا هذا الطرف، خصوصاً أن لها «مواقف» قديمة وجديدة توهم باهتمامها بالقضية الفلسطينية وقضية السلام في المنطقة. لكن التاريخ يظهر بجلاء أن فرنسا بقدر ما حاولت الظهور بمظهر الدولة الغربية «المعارضة» للسياسة الأمريكية، بقدر ما أثبتت دائماً أنها البديل السياسي المؤتمن على المحافظة على المقولات والمقترحات والحلول الأمريكية، وبما يقدم في نهاية المطاف الحماية والغطاء للسياسات «الإسرائيلية».
في ضوء ذلك، جاءت جولة وزير الخارجية الفرنسي رولان فابيوس إلى المنطقة مبتدئاً بمصر، شارحاً ومسوقاً لما يسمى «المبادرة الفرنسية لإحياء المفاوضات «الإسرائيلية» - الفلسطينية»، وقد كان لهذه الزيارة أن تتم قبل حلول سبتمبر/أيلول ولملء الفراغ حتى ذلك التاريخ، خصوصاً أنها لن تسفر عن شيء قبله، وهو ما قاله صراحة الوزير الفرنسي في أحاديثه الصحفية بعد كل لقاء عقده مع القادة ونظرائه في المنطقة.
بعد لقائه مع الرئيس محمود عباس، ووفقاً لما نقله وزير الخارجية رياض المالكي، رحب الرئيس بالجهود الفرنسية، مؤكداً «تطابق الأفكار الفرنسية والفلسطينية»، ومعرباً عن شكره للوزير الفرنسي، لكنه قبل أن يصل إلى "تل أبيب"، استبقه بنيامين نتنياهو بتصريحات هاجم فيها «المبادرة الفرنسية» لأنها «لا تلبي احتياجات «إسرائيل» الأمنية ومصالحها القومية»، وهي تأتي ضمن «محاولات دولية لفرض إملاءات خارجية على إسرائيل، وسنرفضها».
لقد بدأ فابيوس جولته بمصر، وما قاله في القاهرة أعاد قوله في رام الله و"تل أبيب". ويكفي التوقف عند تصريحاته في القاهرة لنكتشف أن الوزير الفرنسي لم يحمل أية «مبادرة» فرنسية أو أوروبية جديدة، بل كان مجرد «قائم بأعمال» جون كيري في غيابه وللأسباب المعروفة.
ومحاولاً أن يعطي جولته «نكهة» مختلفة، بدأ بانتقاده سياسة الاستيطان، مذكراً بأنه «كلما استمر الاستيطان ابتعدنا عن حل الدولتين». اكتشاف غير عبقري، لكنه لم يطالب بوقفه، وهو يعرف أنه سبب توقف المفاوضات برعاية كيري، بل شدد فقط على أنه «من المهم أن تستأنف المفاوضات»، ولو مع استمرار الاستيطان، حيث تم الإعلان في القدس المحتلة، ترحيباً بوصوله، عن مصادقة الحكومة «الإسرائيلية» على إقامة مستوطنة جديدة.
وفي عرضه للفكرة التي يحملها، قال فابيوس: «ليست الفكرة أن نصنع السلام، لكن أن ندفع الأطراف نفسها لتصنع السلام»، هي مقولة كيري، والوساطات الأمريكية منذ اليوم الأول بعد مدريد، لكن نتنياهو سبقه إلى القول إنه يرفض «مبادرته». وبذلك يتأكد، كما كان معروفاً دائماً، أن لمفهوم «الأمن والسلام» في فهم القادة «الإسرائيليين» ما تعارض ويتعارض مع مفهومه في المواثيق الدولية، ولهذا السبب فشلت كل المحاولات السابقة في تحقيق تقدم. فما الفائدة، وما الجديد، وما الحكمة من تكرار ما ثبت فشله؟
لقد حرص فابيوس في تصريحاته على «التحذير» من أنه «إن لم نفعل شيئاً» ( لنلاحظ أن المطلوب أن نفعل «شيئاً»، أي شيء!)، «فهناك خطر أن تشتعل المنطقة»، كأن المنطقة ليست مشتعلة، بل هادئة وآمنة ومستقرة. واللافت بعد هذه الأقوال أن يعترف فابيوس بأن «هذه المفاوضات بدأت قبل 40 عاماً ولم تؤد إلى نتيجة»، ولم يقل لنا الوزير الفرنسي الأسباب التي جعلتها لا تؤدي إلى نتيجة، وستجعلها الآن. لم يقل إن السياسات «الإسرائيلية» المدعومة من الدول الغربية، ومنها فرنسا، كانت السبب الوحيد.
الشيء المؤكد هو أن الأمن والسلام وحل الصراع في المنطقة، ليست في حاجة إلى «كيري الثاني»، بل في حاجة إلى من يضع حداً للاستهتار«الإسرائيلي» والإصرار على انتهاك القوانين الدولية وحق تقرير المصير لشعب تحت الاحتلال.
التعليقات