محمد العسومي

تزداد أزمة اليونان مأساة وتعقيداً رغم برنامج الإنقاذ الثالث الجديد، الذي أقره زعماء منطقة «اليورو» بداية الأسبوع الجاري، وذلك بعد فشل برنامجي الإنقاذ السابقين على مدى ست سنوات، حيث تبخرت أموال البرنامجين دون أن تترك أثراً إيجابياً على الأوضاع الاقتصادية والمعيشية هناك، بل إن الأمر ازداد سوء منذ عام 2008 رغم الجهود الأوروبية المدعومة من صندوق النقد الدولي، حيث انخفض الناتج المحلي الإجمالي لليونان من 240 مليار يورو عام 2008 إلى 200 مليار يورو عام 2014.

بداية لنطرح السؤال التالي: هل اليونان بلد فقير؟ الجواب قطعاً لا، فهذا البلد غني بثرواته الزراعية وإمكاناته السياحية الهائلة، مما يعني أن هناك خللاً هيكلياً كبيراً يعتري النظام الاقتصادي والمالي في هذا البلد الأوروبي.

أزمة اليونان ليست وليدة اليوم، وإنما تمتد جذورها إلى فترة ما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية لتخرج من أزمة لتدخل أزمة جديدة، وهذا ما لم تنتبه له دول الاتحاد الأوروبي قبل قبول اليونان في نظام العملة الموحدة «اليورو»، إذ إنها انضمت إليها بديونها المتراكمة وبأوضاعها المالية المهترئة.

أين المشكلة إذن؟ المشكلة الأساسية تكمن باختصار في الخلل الهيكلي للاقتصاد والفساد والإدارة المالية السيئة، فهذا البلد من أكثر بلدان العالم فساداً، إذ يشمل ذلك مكونات المجتمع كافة تقريباً، فالفقراء يتهربون من دفع تكاليف الخدمات العامة، بما فيها وسائل المواصلات. أما الأغنياء، فإنهم يتهربون من دفع الضرائب، التي تراكمت لتتجاوز 15 مليار يورو، إذ أضحت بعض وسائل التهرب مضحكة، فقد تناولت وسائل الإعلام قصة رجل الأعمال الذي أقام مكتبه على ظهر سفينة قبالة الشواطئ اليونانية، ورفض دفع الضرائب على اعتبار أن مكتبه يقع في البحر خارج اليابسة، حيث لم تتم محاسبته من قبل هيئة الضرائب العامة.

لذلك، فإن أي محاولة لدفع المزيد من الأموال الأوروبية والدولية لن تجدي نفعاً ما لم تتم معالجة الخلل الهيكلي والأوضاع المالية العامة من خلال إصلاحات جذرية، وهذا ما أكد عليه زعماء أوروبا كشرط لبرنامج الإنقاذ الجديد، كما أن ذلك ما أشار إليه رئيس الوزراء اليوناني في خطابه أمام البرلمان الأوروبي الأسبوع الماضي عندما قال إنه ينوي إصلاح نظام الدولة ومعالجة مشكلة التهرب الضريبي، إلا أن أحد الأعضاء البلجيكيين في البرلمان رد عليه قائلاً: نسمع عن إصلاحات منذ فترة طويلة، إلا أننا لا نرى شيئاً من ذلك على أرض الواقع.

ورغم أهمية هذه الخطوة، والتي جاءت متأخرة ومشكوكاً في نجاحها، فإنها وحدها لن تحل الأزمة المالية العميقة في اليونان، فالدين العام وصل إلى 320 مليار يورو ليشكل ما نسبه 180% من الناتج المحلي وخزينة الدولة فارغة والفساد ابتلع جزءاً من القروض والإعانات منذ عام 2009، في حين يتعين على اليونان دفع 320 مليار يورو، حيث تطالب حكومة «اليسار» بإعفائها من جزء من هذه الديون دون مبررات منطقية. فالدائنون ليسوا منظمات خيرية، إذ تفضل ألمانيا- وهي محقة في - ذلك إرسال مساعدات جديدة بدلاً من إلغاء الديون.

وبين هذا وذاك، سيبقى اليونان بئراً دون قاع يلتهم المزيد من الأموال الأوروبية، والألمانية تحديداً ويهدد منطقة «اليورو» برمتها دون أن تلوح في الأفق بوادر لحل القضايا الاقتصادية والمالية الهيكلية التي يواجهها، فحكومة «اليسار» تعمل على موجة المشاعر الوطنية، وأقحمت الشعب في عملية استفتاء لا يعرف معظمهم عواقبها، في حين يحتج دافع الضرائب الألماني على ضخ المزيد من الأموال في اقتصاد ميت من الناحية الإكلينيكية.

أما الحل على المدى البعيد، فإنه بيد اليونانيون أنفسهم، وقد أشارت إليه سيدة أعمال يونانية ببساطة شديدة في مقابلة تلفزيونية قائلة، إن علينا العمل أكثر، فالعمل وحده طريق النجاح، إذ من المعروف أن إنتاجية العمل في اليونان تعتبر الأدنى أوروبياً، ومن دون ذلك ومن دون إصلاحات جذرية لنظام الدولة المالي والضريبي ونظام التقاعد، فإن الأزمة ستتكرر، ولن يجدي نفعاً برنامج الإنقاذ الثالث، علماً بان ذلك لا ينفي مسؤولية البنوك الأوروبية، والألمانية تحديداً التي تمادت في تقديم تسهيلات مالية لليونان رغم مشاكل هيكليته الاقتصادية.