محمد عارف
كالأقدار في التراجيديا الإغريقية، يصعب التنبؤ بما سيجري لليونان خلال الأيام القليلة القادمة. وقد بلغ تفاؤلي من الهشاشة حد الاتكاء على أمرين مختلفين تماماً، أولاً نشاط أسواق الأسهم العالمية، ثانياً جرأة اليسار الراديكالي الحاكم. رئيس الوزراء ألكسي تسيبراس أعلن في «المنتدى الاقتصادي» بروسيا أن العالم تغير بعد أزمة عام 2008 الاقتصادية، ولم تعد أوروبا مركز الثقل المالي أو الجيوسياسي العالمي. وعبثاً حذّرَت كريستين لاغارد، مديرة «صندوق النقد الدولي» زعماء اليونان الشباب بأن ينضجوا. وهل ينضج من يعرف أن «الإنسان يحتاج إلى قليل من الجنون، وإلا فلن يجرؤ قطّ على قطع الحبل ونيل الحرية». قال ذلك «زوربا»، بطل أشهر روايات اليونان الحديثة. وقليل من الجنون لعبة اليونان الجميلة. وزير المالية يانيس فاروفاكيس الذي يحضر اجتماعات مجلس الوزراء على الدراجة النارية مرتدياً الخوذة والسترة الجلدية، أكاديمي متخصص بنظرية اللعب المستخدمة في علوم الفيزياء والرياضيات والإلكترونيات.
ولعبة اليونان كتماثيل إلاهة الحب الأغريقية «أفروديت». وهذا ما يربك زعماء الوحدة الأوروبية الذين عليهم التنازل عن بعض أموالهم لدفع ديون اليونان المستحقة، وأغلبها لمصارف وشركات استثمارات أوروبية، وإذا لم يقدم الأوروبيون الآن على هذه التضحيات الصغيرة نسبياً، فخروج اليونان يهدد ليس عملة «اليورو» فقط، بل الوحدة الأوروبية أيضاً. وينبغي تقدير موافقة اليونان أخيراً على رفع سن التقاعد من 50 إلى 67، فهذه أجمل سنوات العمر للسباحة، وتناول المشويات، ورقصة «الكالامتيانوس» التي تتشابك فيها أيدي الراقصين في حلقة دائرية وصفها أرسطو وأفلاطون.
وما يُقال عن «استعداد البنك الدولي لإقراض اليونانيين لو أنهم يملأون فقط استمارة طلب الدين»، نكتة ظالمة تلقي باللوم على كسل اليونانيين. فما يحدث لليونان سببه أن بلدهم ينتج سلعاً وخدمات منخفضة المردود، ولا تملك قيمة مضافة، بالمقارنة مع إنتاج ألمانيا سلعاً أكثر تصنيعاً وأعلى قيمة. شرح ذلك فاروفاكيس في محاضرة ببرلين الشهر الماضي، ذكر فيها أن مليارات اليورو التي تجنيها الشركات الألمانية تتراكم في مصارف فرانكفورت، وتزيد عرض الأموال، وتخفض بالتالي أسعار النقود. وسعر المال هو معدلات الفائدة، التي تقل كثيراً في ألمانيا عما في باقي أعضاء الاتحاد الأوروبي. وتندفع بنوك الشمال الأوروبي لإعادة إقراض احتياطياتها إلى حيث أتت؛ اليونان أو إيرلندا أو إسبانيا. فمعدلات الفائدة عالية جداً في هذه البلدان التي تعاني ندرة رأس المال. وهكذا ينطلق «تسونامي» الديون من فرانكفورت وهولندا وباريس، إلى أثينا ودبلن ومدريد، غير قلق من احتمال تعويم عملات، مثل الدراخما والليرة، قضى عليها اليورو.
وعلى عكس المطلوب، جَزَّأت العملة الموحدة بلدان الوحدة الأوروبية. ويعترف فاروفاكيس بأن بلده «كان يقترض من دون حساب، لكن مقابل كل مقترض من دون حساب هناك مُقرض من دون حساب». وإجمالي ديون بلدان الأطراف هو انعكاس فوائض بلدان الشمال. «ونحن كأوروبيين مسؤولين جميعاً عن ذلك بشكل مشترك وجماعي، وكأوروبيين مسؤولين بشكل جماعي عن إصلاحه، دون توجيه أصابع الاتهام أحدنا للآخر».
هذه لعبة اليونان الجميلة حتى موعد تسديد مليار و600 مليون يورو نهاية الشهر الجاري. وإذا كان النصر لمن لا تطرف عيناه خوفاً، فاليسار الراديكالي الذي يحكم اليونان لا يتكون من محترفي السياسة، الذين تطرف عيونهم، بل ممثلي نخبة أكاديمية مناضلة في أحد أعرق بلدان العالم حضارة، وقد عرف حروباً عالمية، وأهلية، وسبع سنين من حكم طغمة عسكرية دعمتها واشنطن. إنهم «زوربا» وقد أدرك أن «السعادة الحقة: عندما لا يكون لديك أيّ طموح، لكنك تكدّ كالحصان، كما لو كانت عندك الطموحات كلها، وتعيش بعيداً عن الناس الآخرين، ولا تحتاج إليهم، مع ذلك تحبهم. وعندك النجوم فوقك، والأرض عن يسارك، والبحر عن يمينك. وتدرك فجأة من صميم قلبك أن الحياة حققت معجزتها النهائية: لقد أصبَحَتْ قصة خيالية».
التعليقات