إياد أبو شقرا

مرّت يوم الجمعة الفائت 21 أغسطس (آب) الذكرى السنوية الثانية للمجزرة الفظيعة التي ارتكبها النظام السوري في بلدات الغوطة الشرقية مستخدمًا أسلحة كيماوية.


وفق تقارير موثوق بصحتها قصف النظام المنطقة الواقعة على أطراف دمشق، وبالأخص بلدات زملكا وعين ترما وكفربطنا وعربين، وكذلك ضاحيتا المعضّمية وداريا، فجرًا بصواريخ تحمل غاز السارين - وقيل غازات سامة أخرى - من بطارياته في جبال القلمون، شمال غربي العاصمة السورية. ولقد تفاوتت التقديرات حول عدد الضحايا، ورجّحت معظم المصادر عدد القتلى، ومعظمهم من النساء والأطفال، بين نحو 1300 قتيل (وفق الائتلاف الوطني السوري)، و1729 قتيلاً (وفق «الجيش السوري الحر»)، وبينهما قدّرت مصادر أميركية العدد بـ1429 قتيلاً، أما المصابون فزاد عددهم على 3600 مصاب.


هذه الجريمة جاءت بعد «خط أحمر» آخر وضعته الإدارة الأميركية لنظام بشار الأسد، الذي تدرّج في أساليب قمع الثورة الشعبية من إطلاق الرصاص الحي على المظاهرات السلمية، إلى استخدام المدفعية الثقيلة، فسلاح الطيران والصواريخ. وفي كل مرة صعّد فيها القمع كان المجتمع الدولي يستنكر ويهدّد راسمًا «خطوطًا حمراء»... سرعان ما يتبيّن أنها وهمية.
وفي هذه الأثناء كان الغضب الشعبي يتزايد، وكذلك اليأس من العدالة الدولية.


وحقًا، كما لو كان ذلك هو المقصود بالضبط، تراجعت تدريجيًا أصوات الاعتدال، وتوقفت - أو كادت - الانشقاقات من الجيش والأجهزة الأمنية ومؤسسات الدولة الأخرى، ومن ثَم كان من الطبيعي أن ارتفعت أصوات التطرّف حتى طغت على الساحة بنتيجة خذلان المجتمع الدولي ثورة الشعب، وإحجامه عن دعم «الجيش الحر» الذي رفض أفراده قتل شعبهم.


ثم بدأ يتسارع توافد المتطرّفين من كل حدب وصوب بحجة «نصرة» الشعب السوري ومحاربة النظام «الذي يقتل المسلمين السنّة بسلاح إيران وروسيا» - حسب عباراتهم. وبعده، كما نعلم مع الأسف، تبدّلت كيمياء الثورة... وزالت المساحيق التي كانت تغطي بشاعة المؤامرة الدولية.


صار المتطرّفون، وبالأخص تنظيم داعش المشبوه الذي تخصّص لاحقًا بمقاتلة الثوار لا النظام، الذريعة الجاهزة لإطلاق يد النظام لمواصلة القتل. وجاء رد فعل إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما، بالذات، على الهجوم الكيماوي يوم 21 أغسطس 2013، ليقطع الشك باليقين. لقد كان المفصل الذي كشف تمامًا أن واشنطن، بعكس كل تصريحات مسؤوليها، لا تمانع في بقاء نظام الأسد ولو على جثث السوريين.
في ذلك العام كشف النقاب عن مفاوضات مسقط السرّية بين الولايات المتحدة وإيران، وأخذت كرة الثلج تتدحرج.


لقد بيّنت مجزرة الغوطة أن الموضوع السوري لا يعني إدارة أوباما عمليًا إلا من ناحيتين؛ الأولى: عقد صفقة إقليمية مع إيران حامية نظام الأسد وراعيته وعلة وجوده. والوجه الثاني حماية إسرائيل من أي «سلاح تدمير شامل» (نووي أو كيماوي أو بيولوجي) يمكن أن يسقط في أيدي جماعات قد تهدّد وجودها فعلاً لا قولاً.


وعليه، بما أن التفاهم مع إيران كان يستلزم تحاشي الإصرار على إزاحة الأسد، تغاضت واشنطن عن كل «خطوطها الحمراء» السابقة، وكان الرد العملي الوحيد على مجزرة الغوطة موافقة الأسد على تسليم نسبة كبيرة من مخزونه من الأسلحة الكيماوية. هذه الخطوة كانت أكثر من كافية لإطلاق يد النظام في استخدام البراميل المتفجرة بديلاً عن الغازات السامة في قصف المدن والقرى غير الخاضعة لسيطرته، وأيضًا إعادة تأهيله دوليًا - بالتنسيق مع روسيا والصين وإيران - مع تركيز جدول الأعمال الغربي والدولي برمّته لمحاربة «داعش».


اليوم، مع احتدام معركة تصويت مجلسي الكونغرس الأميركي على إبرام الاتفاق النووي، يواصل الرئيس أوباما محاولات الترهيب والترغيب مع المشرّعين الأميركيين. فهو بعد تلويحه بأنه سيلتزم بالاتفاق حتى لو صوّت مجلسا الكونغرس ضده - لثقته من إخفاق خصومه في جمع غالبية الثلثين الكافية لكسر «فيتو» البيت الأبيض -، أعلن خلال الأسبوع المنصرم في رسالة إلى أحد نواب الكونغرس الديمقراطيين أن الاتفاق لن يكبّل يديه، بل سيبقي خياراته ضد إيران مفتوحة، بما فيها الخيار العسكري.


كلام كهذا، في الظروف التي جاء فيها، يشبه إلى حد بعيد «الخطوط الحمراء» التي أسقطتها الغازات السامة في الغوطة. كذلك يشبه محاولات طمأنة دول الخليج العربية بينما تنكشف كل يوم أبعاد طموح طهران للهيمنة الإقليمية حتى قبل رفع العقوبات الدولية عن إيران، ويمضي قدما مشروع التطهير الطائفي والتقسيم العرقي وإعادة رسم الخرائط في العراق وسوريا ولبنان.


وبالتالي، خلال الفترة القصيرة المقبلة، علينا توقّع الكثير من المناورات والإغراءات ومحاولات لي الأذرع. وحتى بعد تصويت الكونغرس المرتقب في سبتمبر (أيلول) المقبل سيفرض الاتفاق نفسه على الحملة الانتخابية الرئاسية الأميركية، وقد تسهم تطوّرات ما على أرض العراق وسوريا وغيرهما في خلق معطيات جديدة. ولكن يبقى هناك سؤالان ينتظران جوابين شافيين؛ الأول: هل تستطيع واشنطن احتواء عواقب الانهيارات الإقليمية إذا ما استقوت طهران بالاتفاق وواصلت حربها التوسعية المعلنة على جيرانها؟ والثاني: هل صحيح أن خطة أوباما البعيدة الأمد - كما يزعم بعض المدافعين عن سياساته - ستستهدف لاحقًا قدرات إيران وطموحاتها؟
باعتقادي من الواجب طرح هذين السؤالين، ولكن إلى حين توفر الجوابين، على أقطار العالم العربي، وفي مقدمها دول مجلس التعاون الخليجي، رسم أولوياتها وتعزيز الثقة في ما بينها بدلاً من إهداء خصومها هدايا مجانية.
لا أحد يريد قرع طبول الحرب، وليس من مصلحة أحد رفض الحوار كمبدأ، لكن الحوار الحقيقي لا يمكن إجراؤه من فوهة المدفع، ولا تحت رحمة الصواريخ كما يريد حسن روحاني.. الذي قال بالأمس، خلال زيارته معرض «منجزات» وزارة الدفاع الإيرانية بكلام صريح ومباشر إن «قوة الردع والقدرات (العسكرية) العالية تضمن السلام لدولها».
الحق معك يا دكتور... ومنكم نستفيد!