& محمد مصطفى علوش


قبل الثورات العربية كان يحكى عن لبنان أنه واحة الديمقراطية والتعددية السياسية، العين التي قاومت المخرز. لبنان الفن والحضارة والإنسان، صلة الوصل بين الشرق والغرب. لبنان التنوع الديني والمذهبي الجميل. لبنان النموذج، إلى غير ذلك من النظريات الحالمة التي تعكس المرارة العربية الدفينة أكثر مما تعكس واقعا حقيقيا معاشا.
جاءت الثورات العربية فكانت ثورة على المفاهيم كما هي ثورة على نظم مستبدة متكلسة تعيش خارج حركة التاريخ وتشد المجتمع قسرا إلى قوانين بالية لم تعد تصلح مع التدفق المعرفي الحر، والتواصل البشري المفتوح. فلبنان لم يعد النموذج المطوب بقدر ما تكشّف أنه النموذج المستحيل. فهو بلد لم يشهد ثورة على غرار أقرانه رغم أن أول إرهاصات الثورات العربية ولدت فيه عام 2005 .. يوم خرج أغلب اللبنانيين إلى الشوارع داعيا الوجود السوري وجهازه الأمني لمغادرة لبنان ومنحه استقلاله الحقيقي دون وصاية أخوية أو أبوية. يومها رفع المتظاهرون الأعلام اللبنانية فقط وحملوا شعارات الحرية، الكرامة، العيش المشترك.
قيل يومها: لبنان يحاكي ثورة البرتقال التي ولدت في أوكرانيا عام 2002 قبل أن تفترسها يد الثورة المضادة التي أعادت البلاد إلى دائرة الوصاية الروسية التي لم تصمد بضع سنوات أمام تجدد الثورة في البرلمان والشارع، فكان خيار المواجهة عبر تقسيم البلاد، وإدخالها في أتون حرب داخلية، مع تقطيع أوصالها بسلخ جزيرة القرم منها وإعادتها إلى روسيا. الذرائع والمبررات كثيرة كما هو حال ما يخطط لكثير من دولنا العربية بعد أن تضع الحروب أوزارها، ويبدأ الحديث عن الحلول السياسية للصراعات الطاحنة.
في زحمة تلك الأحلام المراهقة، قيل: إنه لبنان الأرز الشامخ، لبنان الديمقراطية، لبنان العيش المشترك، لبنان الثقافة والفن، لبنان الذي لا يشبهه قطر عربي آخر. وخلافا لكل توقع - ما أكثر التوقعات السياسية في عالمنا العربي قديما وحديثا - فاجأت الثورات العربية النخب ومراكز النفوذ وقوى التسلط، فجاءتهم في تونس فقالوا: مصر، ليبيا، اليمن،.. ، غير تونس ثم فاجأتهم في مصر وليبيا واليمن، وبقيت منظومة التحليل هي نفسها.
ويا للمفارقة، لبنان النموذج المحبوب حاول هذه المرة أن يحاكي المجتمعات العربية الأخرى، فحاول أن يصنع لنفسه ربيعا حقيقيا، فخرجت نخب شبابية تحرّض على الخروج عبر منصات القصف الاجتماعي (فيسبوك، تويتر) . بالفعل تجمع عشرات وربما بضع مئات في جزر منفصلة، في مدينة هنا وضاحية هناك، لكنهم لم يصنعوا ربيعا لبنانيا على الإطلاق، والسبب أن لبنان بلد الطوائف، والطوائف هي من تحكم، ولكل منها حصة وكوتة ثابتة في مؤسسات الحكم وأدوات الفساد، وهذه لها قوانين تختلف عن قوانين المجتمعات التي تتحكم بها قوى متسلطة في مكان آخر..
ولما بدأت الحركات في سوريا، وتحول الصراع السياسي فيها إلى نزاع مسلح، دخل لبنان في طور جديد، أقل ما يمكن أن يقال فيه: إنه يعيش حربا غير معلنة، لكنها حقيقية، طائفية هي حتى النخاع حتى لو أنكرها كلّ لبناني، وتغنى بالعيش المشترك كل رجالات الدين.
وعند كل خضّة سياسية أو زلزال في عاصمة عربية، كانت بيروت وأخواتها من مدن لبنان تعيش ارتدادات تلك الهزات وتتفاعل بها، حتى غدا لبنان النموذج المستحيل الذي لا يشبهه أحد لا في بني قومه، ولا في بني عمومته من أبناء العم حام وسام وبقية العائلة البشرية.
ومن أغرب هذا النموذج أن تجد الحكومة الواحدة تقاتل نفسها، وتهدم ذاتها، وتتصارع في الشارع، تماماً كما يصارعها خصومها. نموذج النزول للشارع على يد فئة سياسية هي شريكة في الحكومة، ومنهج القصف الكلامي المتبادل بين أقطابها من على المنابر المتوفرة، يختزل لك ببساطة حكاية لبنان "النموذج المستحيل".. وما أدري إن كان هذا النموذج الذي لا يمكن أن يحاكيه بلد عربي آخر يعتبر من ألطاف الله بالعرب أم من سوء حظهم المتعثر؟
رحم الله وزير الخارجية السعودي الأسبق، سعود الفيصل حين سئل عن صحته في آخر أيامه، فقال: بات حالي كحال الأمة العربية.. رحل الأمير سعود، فهل يعني كلامه أن الأمة العربية هي على أعتاب إعلان موتها؟
اللهم لطفك !
&