أحمد عبد الملك

كان العُرف ومازال أن التاريخ يكتبه المنتصرون، لذا لا نجد في هذا التاريخ العربي المُمتد إلا الإيجابيات، والانتصارات، والفضائل، والأنفة، والكبرياء.. وإن لازمَت بعضها انتكاسات مريعة سُميت مرةً «النكبة»، ومرة أخرى «النكبة»، كما تم ذكر الاغتيالات السياسية المتكررة على استحياء في كتب التاريخ.

وخلال هذه الحقبة من تاريخ العرب، برع بعض الكتبة في صناعة «الأصنام الورقية»، التي سُجلت باسمها الانتصارات والمواقف الشجاعة، ووصل المدح لدرجة «التأليه»، حتى قال المتنبي في مدح سيف الدولة:

«تجاوزتَ مقدارَ الشجاعة والنُهى.. بقولِ أُناسٍ أَنتَ بالغيبِ عالمُ»

تصوّروا إلى أي مدى تبرع الذهنية العربية في وصف من رضيَت عنهُ، إلى حد قول أبي نواس في الخليفة هارون الرشيد:

«وأخفتَ أَهلَ الشِركِ حتى أنهُ... لتخافُكَ النُطفُ التي لم تُخلقِ

ولا يختلف عنه قول ابن هانئ الأندلسي:

«ما شئتَ لا ما شاءتْ الأقدارُ.... فاحْكُم فأنتَ الواحدُ القهّارُ»

وكل تلك المعاني تخرج عن السوية والاعتدال إلى حد المديح المفرط الذي يخلع على الممدوح صفاتِ الخالق تعالى. وتلك أزمة مرّت وتمر بها الثقافة العربية.

واليوم، ومع تطور وسائل الإعلام، نلاحظ أن نفسَ النمط يتفاقم عبر خلق «أصنام من ورق» في مناحي الحياة المتعددة! ولعل سبب ذلك أن الأمة العربية تم تدْجينُها لقبول هذا الأسلوب غير العقلاني، لذا فثمة كثير من المناهج تحارب التفكيرَ النقدي.

لقد أصبح العقل العربي قابلاً لتصديق أي رسالة، مهما كانت مُخالفةً لقوانين المنطق وسنن التاريخ، والفرد العربي دوماً إما «مع» أو «ضد»، وإن كان صاحب الـ «ضد» غالباً ما يذهب وراء الشمس، وكما قال نزار قباني، «لا توجد منطقة وسطى بين الجنة والنارِ».

لقد أصبح العقل العربي يؤمن بوجهة نظر واحدة، هي القوية والمسيطرة، ولا يلتفت لوجهات النظر الأخرى. و«المجرم» في بلد قد يصبح «بطلاً» في بلد آخر، و«العميل للخارج» في بلد، قد ينظر إليه في بلد آخر على أنه «مناضل وبطل شريف» تُفرش له البُسط الحُمر!

العقل العربي لا تسنح له فرصةُ التأمل والتفكير في أي قضية، فما يُملى عليه هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لكنه يرتج أو يتوارى إلى الظل حين يظهر ما يُعرّي «المواقف السابقة»، وبالتالي يلعنُ المواطن العربي عقلهُ ويتبرأ منه.

لكن تلك البراءة لا تدوم، إذ سرعان ما يعود هذا العقل إلى سابق سيرته في التصديق مع أول برنامج تليفزيوني يتحدث عن قضايا الأمة، ويقلب الأوراق، ومعها ينقلب عقلُ هذا المواطن إلى عادته القديمة في التسليم بكل ما يقال.

بودنا لو يستقيل هذا العقل من مهمته غير العقلانية إلى الآن، وألا يلتفت إلى سماسرة اليوم الذين كانوا يتسكعون في شوارع المنافي في أوروبا، يشتمون القادة العرب والخليجيين، ويتهمون شعوبهم بالرجعية وممالأة الاستعمار، ثم يأتون إلى «جنات عدن» كي يتملقوا من سبّوهم بالأمس، ويكفروا بعوزهم وشتاتهم وشعاراتهم، وقد انقلبوا من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، وهم لا يخجلون لا من التاريخ ولا من أنفسهم!

يعيش العقل العربي مأزقاً حقيقياً مع أولئك الذين تصنعهم وسائلُ الإعلام كـ «أصنام من ورق»، وتُطلقهم في السموات، وتفرضهم نجوماً على المُشاهد العربي المسكين، الذي يتبرأ من عقله كل يوم، ثم يعود إليه تائباً نادماً، وهذه مأساة بالمعنى الحقيقي للكلمة.