عبد العلي حامي الدين
الجريمة التي أقدم عليها شابان فرنسيان بقتل إثني عشر صحافيا داخل قاعة تحرير الجريدة الساخرة بدم بارد هي جريمة مدانة بجميع المقاييس، ولا شيء يبرر القتل ضد المدنيين ولو كان أسلوب تحرير الجريدة استفزازيا لمشاعر ملايين المسلمين. القتل مدان..وكفى.
من الأخطاء التي يرتكبها الكثير من المسلمين في التعاطي مع مثل هذه الأحداث هو الركون إلى تفسير الأسباب المؤدية إلى القتل، وبين التفسير والتبرير نسقط في الكثير من المتاهات التي نحن في غنى عنها.
الشابان المتهمان بارتكاب الجريمة نشآ في فرنسا وترعرعا في مدارسها وتشربا مبادئ الجمهورية التي لم تمنعهما من التأثر بدعوات العنف التي ينشرها تنظيم القاعدة وما تفرع عنه من «تنظيمات جهادية»، ومع ذلك فنحن معنيون باستنكار هذا العنف وإدانته، لأن هذين الشابين يدينان بدين الإسلام وقدمهما الإعلام الفرنسي على أنهما ارتكبا هذه الجريمة انطلاقا من قناعات دينية وانتقاما من سخرية الجريدة من نبي الإسلام.
نحن معنيون باستنكار هذه الجريمة لأن من بيننا من يحاول تبرير الجريمة أو يشكك في صحتها أو يطرح التساؤلات حول بواعثها وحول توقيتها وهلم جرّ من الأسئلة «الوجودية» التي لا تنتهي.
جريمة القتل وقعت..وهي مدانة بجميع اللغات المفهومة: نقطة إلى السطر..
هل الرسول عليه الصلاة والسلام بحاجة إلى غضبنا إذا تعرض للاستهزاء والسخرية من طرف رسامي الكاريكاتور؟ بالتأكيد: لا، فرسول الإسلام ورسالة الإسلام تتمتع بقوة في ذاتها وهي قوة مستغنية عن ارتكاب جرائم قتل لإثبات حبنا لنبي السلام والرحمة المبعوث للعالمين.. الموقف المبدئي الرافض للعنف ضد المدنيين ينطلق من القناعة ذاتها التي ترفض العدوان على غزة في فلسطين وتستنكر قصف السكان المدنيين ببراميل البارود الحارقة، وتستهجن تهجير وقتل المدنيين الآمنين في ديارهم في العراق خوفا من التوحش الداعشي، وتدين جرائم القتل التي تستهدف المدنيين لاعتبارات سياسية وعرقية في ليبيا أو لاعتبارات مذهبية وطائفية وسياسية في اليمن، وتستنكر قتل المعتصمين في ميادين رابعة والنهضة بالقاهرة والتنكيل بهم بدم بارد من طرف قوات الجيش والشرطة..
جرائم القتل التي تستهدف المدنيين أصبحت جرائم عادية يجري التطبيع معها وخلق نفسيات لها القابلية للتعايش مع القتل اليومي، وما يصاحبه من قتل مشاعر الإحساس بهول جريمة القتل وفظاعة إزهاق النفس البشرية بدون وجه حق.. ولذلك فإن دور المثقفين اليوم، هو تنمية الوعي بقدسية الحق في الحياة لغير المحاربين، وليس تبرير قتل المدنيين بمبررات إيديولوجية أو دينية أو سياسية..
لكن، ماذا عن استغلال الطرف الآخر لجريمة القتل، وتحويلها إلى جريمة تستهدف حرية التعبير ودعوة قادة العالم للتظاهر في باريس لإدانة الجريمة والدفاع عن حرية التعبير؟
لا، هذا موضوع آخر تختلط فيه المبادئ بالمصالح..رفض العنف مبدأ لا يحتاج إلى انتقال قادة العالم بمن فيهم من لازالت أيديهم ملطخة بدماء الفلسطينيين في غزة..
المراقبون لتطورات الأحداث سجلوا تميز الموقف المغربي من المسيرة المنددة بالإرهاب التي نظمت بالعاصمة الفرنسية على خلفية الهجوم الذي تعرضت له صحيفة «شارلي إيبدو».
الموقف المغربي تمثل في صدور بيان عن الديوان الملكي للتنديد بالفعل الإرهابي مع تقديم التعازي بشكل رسمي من طرف وزير الخارجية إلى رئيس الجمهورية الفرنسية..
الخارجية المغربية أصدرت بيانا أعلنت فيه عن مشاركة السيد وزير الخارجية في مسيرة باريس مع الامتناع عن المشاركة في حال تم رفع شعارات أو رسوم مسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم.
الموقف المغربي استند إلى مبدأين واضحين: أولا، رفض الهجوم الإرهابي واستنكار لغة العنف أيا كانت تبريراتها .. ثانيا، رفض المساهمة في مسيرة ترفع فيها شعارات أو رسوم مسيئة للرسل والأنبياء..
بعض المحللين ربطوا بين الموقف المغربي الأخير وبين تحول اللهجة المغربية اتجاه القوى الكبرى وخاصة فرنسا، وقد ظهر ذلك بشكل واضح في كلمة المغرب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة..
والحقيقة أن السياسة الخارجية لا يمكن أن تكون ناجحة إلا إذا استطاعت التوفيق بذكاء بين المصالح والمبادئ..لقد تحكمت في الموقف المغربي معطيات أساسية مرتبطة بطبيعة الدولة في المغرب وطبيعة نظامها السياسي بالنظر للصفة الدينية للملك باعتباره أميرا للمؤمنين.
وهي صفة لها امتدادات سياسية خارجية تتجاوز تدبير الحقل الديني المغربي، ومن ذلك رفض العنصرية والاستهداف المباشر لكل ما له صلة بالإسلام والمسلمين باعتبار عدد المغاربة المسلمين المقيمين في دول غربية، ورفض تعمد الخلط بين أشكال التطرف لدى بعض المسلمين وبين الإسلام كدين وكثقافة وكحضارة وتاريخ..ولذلك كان لابد من موقف مبدئي ينسجم مع الخصوصية الدينية والحضارية للمغرب.
إن التنديد بالفعل الإرهابي تحت أي مسمى كان، يجسد موقفا مبدئيا رافضا للعنف خاصة من طرف دولة سبق لها أن اكتوت بنار الإرهاب والتطرف..
لكن هل معنى ذلك أن المغرب يبني جميع مواقفه الخارجية استنادا إلى المبادئ، وهل له القدرة على ذلك، خاصة وأن البعض ربط بين الموقف المغربي الأخير وبين حالة الجفاء التي تمر بها العلاقات المغربية الفرنسية؟
في العلاقات الدولية يجري تصنيف الدول إلى خمس مجموعات رئيسية من حيث قوتها السياسية والاقتصادية والعسكرية، ومن خلال وضعياتها المختلفة وما تحققه لها تلك الوضعيات من نتائج، وهي: الدولة المركز، والدولة القارية، والدولة الجزيرة، والدولة الترانزيت، وأخيرا الدولة الجناح أو الطرفية.
إن العمق التاريخي والاستراتيجي للمغرب، يجعل منه دولة مستقلة ذات سيادة، تختلف في سياستها الخارجية عن بعض الدول التي كانت نتيجة اتفاقات دولية بين قوى استعمارية، وفي نفس الوقت لا يمكن الادعاء بأنه يمثل دولة قوية، فهو يحاول شق طريقه ضمن الدول الصاعدة، وهو ما يفرض على السياسة الخارجية المغربية تطوير رؤيتها في العلاقات الدولية: رؤية قائمة على مبادئ واضحة، تعكس ثقة المغرب في ذاته وقدرته على بناء علاقات متناغمة ومتوازنة مع الجميع على قاعدة التركيب الخلاق بين المبادئ والمصالح..
التعليقات