هــالة أحمد زكى
&فى ربيع برمهات عام 1862... قضى العالم محمود حمدى الشهير بمحمود باشا الفلكى أربعة أيام وأربع ليال بصحبة صديقيه أحمد بك فايد و مصطفى أفندى شوقى عند سفح الهرم، أما سبب وجوده فى صحبة الاصدقاء فهو مساعداته فى عمل قياساته وأرصاده الفلكية لكتابة بحث مهم أكتمل بعد أقل من شهرين فى مايو من نفس العام .
ولكن من يكون هؤلاء؟ وما الذى يدفعنا لكى نعود إلى الخلف لنعرف حكايتهم أو على الأقل حكاية هذا العالم؟ وما علاقتهم بالأهرامات التى لاتزال حتى الآن لغزا؟ آخر مفاجآتها هى ما أعلنته أحد المواقع الخبرية عن توصلها إلى تكلفة بناء الهرم الأكبر فى يومنا والذى قدر بنحو 878.250.000 دولار، حيث يصل سعر الحجرالجيرى المستخدم فى البناء نحو 776.250.000 دولار، أما عن سعر المواد الأخرى المستخدمة فى البناء وأجر العاملين فيصل نحو 102 مليون دولار.
أقول لكم إن الذى جعلنى أتوقف معكم عند هذه الحكاية عدة أشياء، أولها هذه المعلومة المثيرة للجدل، وأيضا وجود مكتبة عملاقة تضم أكثر من ثلاثمائة مجلد تخص هذا العالم داخل الجمعية الجغرافية المصرية التى أسسها خديو مصر إسماعيل باشا فى مايو عام 1875 نظرا لما يعود على مصر من نفع جزيل و فوائد جليلة من العلوم الجغرافية والمصالح الصناعية والتجارية بارتياد الأمصار وأقطار إفريقيا وما يجاورها من البلدان.
والسبب الأخير، هو مرور مائتى عام على ميلاد محمود باشا الفلكى عام 1815 فى قرية الحصة بالغربية، بعد أربع سنوات من مذبحة القلعة التى قضت على المماليك، وهو ما أعقبه إنشاء أول مدرسة حربية فى اسوان لاعداد ضباط على الطراز الحديث كنواة للجيش المصرى.
مثل هذه الأحداث تبدو للوهلة الأولى متباعدة، ولكنها مهدت الطريق أمام بطلنا للالتحاق بالمدرسة البحرية التى أطلق عليها اسم دار الصناعة «الترسانة» وتخرج فيها وهو فى الثامنة عشرة برتبة بلوك أمين، ولكن نتيجة لتفشى وباء الطاعون فى الاسكندرية، تركها إلى بولاق ليلتحق بمدرسة البويتكنيك وتحديدا بالقسم الثانى الذى أصبح كما يقول الكاتب والمؤرخ أحمد سعيد الدمرداش مدرسة المهندسخانة التى اتخذت من قصر إسماعيل بن محمد على مقرا، وضم إليها مدرسة المهندسين بالقناطر الخيرية ومدرسة المعدنيين بمصر القديمة.
ويتخرج الفلكى فى الرابعة والعشرين، ويعين معيدا لعلم الجبر الذى لم يكن وحده هو كل ما يحب ويهوى، فهناك علم التفاضل والتكامل واللغة الفرنسية، ثم علم الفلك الذى أصبح عشقه الحقيقى.
وفى السابعة والعشرين، يصبح من مريدى الرصدخانة (أى المرصد الفلكى) التابعة لمدرسة المهندسخانة، فالعاملون بالمرصد لابد وأن يكونوا من خريجى المهندسخانة.
كما أن وجوده بالرصدخانة أعتبره فرصة لوضع مؤلفه «نبذة مختصرة فى تعيين عروض البلاد وأطوالها و أحوالها المتحيرة»، الذى رغم طول عنوانه، كان متفرد المتن العلمى لا يحاكى الكتب القديمة، بل كان يحمل وجهة نظر رجل مُطلع على العلوم الحديثة.
تأتى فرصه أفضل مع ترشيح على باشا مبارك عام 1850 له للدراسة فى فرنسا ، ليعود إلى مصر وهو فى الرابعة والأربعين كعضو بالمجمع العلمى المصرى ووكيلا للجمعية الجغرافية المصرية.
هذا يكفى عن حياته، فلابد أن نعود إلى قصة الهرم الأكبر الذى تركناه وحيدا أول الكلام، لنجد الفلكى قد توصل عن طريق القياسات الدقيقة إلى نتيجة تفيد بأن جميع وجوه الأهرام مائلة بالتساوى نحو الأفق بزاوية قدرها 52 درجة ونصف. وهذا الميل الثابت لوجوه الأهرام لا يمكن أن يكون مجرد مصادفة.
فثبات ميل وجوه الأهرام جميعا على الأفق، لابد أن يكون هو العلاقة بين الهرم الأكبر والنجم الشعرى. وأن مقدار الـ52 درجة ونصف لميل وجوه الأهرام نحو الأفق، قد اتخذ عن قصد للمحافظة على هذه العلاقة بين الموقع السماوى للنجم المذكور، وبين الموقع الأرضى للأهرام.
والميل الثابت لأهرام منف قد جُعل 52 درجة ونصفا لكى تقع الأشعة «المباركة»- طبقا للمعتقدات المصرية القديمة- لنجم الشعرى عمودية على الوجه الجنوبى للأهرام «حتى يمكن للإله القاضى أن يبعث بتأثيره ورحمته من فوق عرشه أو من ذروة مداره إلى الجسد الذى أُودِع الهرم و أخضِع لحكمه.»
هذه كلمات محمود باشا الفلكى من كتابه «الظواهر الفلكية المرتبطة ببناء الأهرام»، والتى يضيف إليها عالم الفلك المصرى القدير محمد رضا مدور مقارنة استرعت انتباه محمود الفلكى بين الأهرامات والقاعدة المتبعة فى دفن موتى المسلمين، الذين يرقدون على جوانبهم اليمنى ويولون وجوههم شطر الكعبة المشرفة بمكة المكرمة.
ويُرجع الفلكى زمن الأهرامات إلى القرن الرابع والثلاثين قبل الميلاد، ليكون عمرها فى نفس الوقت الذى قام فيه محمود الفلكى بأبحاثه قد وصل إلى53 قرنا من الزمان.
اجتهاد علمى نشر ضمن أبحاث أكاديمية العلوم البلجيكية فى بروكسل عام 1862، ليستفيد منه بيازى سميث الاسكتلندى وعالم الآثار الشهير فلندرز بيترى والسير نورمان لوكيير، والبرفسيور جيرالد هوكنز استاذ الفلك بجامعة بوسطن فى ستينات القرن العشرين الذى استنار برأى الفلكى.
ليست هذه القصة كلها، فهناك عدة مؤلفات تحسب لهذا العالم الكبير منها رسالة فى التقاويم الاسرائيلية عام 1855، ورسالة فى الحالة الحاضرة للمواد المغناطيسية الأرضية بباريس وضواحيها عرضت عام 1856 على المجمع العلمى بفرنسا، والتقاويم العربية قبل الاسلام حيث ربط بين الفلك والتراث الاسلامى،واستطاع أن يحدد مولد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ووفاته وتأكيد إستعانة العرب بالتاريخ القمرى، ورسالة هامة فى وصف مدينة الاسكندرية القديمة وضواحيها، ورسالة فى التنبؤ بمقدار فيضان النيل قبل فيضانه، ورسالة فى بيان المزايا التى تترتب على انشاء مرصد فلكى لرصد الحوادث الجوية.. كما يشير الاميرالاى محمد مختار واسماعيل بك مصطفى فى كتاب «ترجمة حياة العالم الفاضل المغفور له محمود باشا الفلكى وتعدد مآثره» الصادر ببولاق عام 1886.
مؤلفات كثيرة، يختلف مؤرخ عن آخر فى تسمية عناوينها، والمهم الفكرة والمضمون، وهنا يمكننا أن نتوقف عند التنبؤ بمقدار فيضان النيل الذى يعد قصة أخرى فى حياة الفلكى جمع من أجلها معلومات فى مدة تقارب الأربعين عاما لتقدير حالة الرى فى مصر.
كما أن رصده الدقيق لكسوف الشمس فى دنقلة بالسودان فى 18 يوليو عام 1860 لا يعد فقط قصة جديدة للفلكى الذى ينقلنا من حكاية إلى حكاية، بل هو حدث كبير فى حياة أهل مصر سافر من أجله على ظهر الجمال لعشرة أيام فى أراضى النوبة الوعرة، وتلفت أدواته، لكنه يضع فى النهاية تقريرا ناجحا أضاف إليه تحديد عناصر المغناطيسية الأرضية فى كل مكان ذهب إليه .
هذا التقرير جدير بأن يكون حدثا فى حياة أهل مصر، بدليل اعتراف علماء الغرب فى تقريرهم الذى أورده تفصيلا د. رضا مدور من «ان العرب اليوم يدركون بصورة أفضل كنه العلم الحديث وماله من قوة خارقة، حتى إنهم لم يعودوا فى حاجة إلى علماء أجانب فلديهم علماؤهم من مواطنيهم. والعرب اليوم يدفعون الحركة العلمية إلى الأمام مظهرين بذلك أن الجنس الذى نقل علوم القدماء إلى الغرب، لم يعتريه ضعف أو وهن».
لمحة من حياة عالم قدرته مصر فأصبح وزيرا للأشغال والمعارف، وكان بيانا لرقى العقل المصرى قبل الإحتلال، فقد كان مصريا حتى النخاع.
كان لطيف المعشر وسهل الوصول للجميع، كما وصفه زميله إسماعيل بك مصطفى الفلكى، وفقدته مصر عام 1885 أى منذ مائة وثلاثين عاما، وهو مازال يكتب مؤلفه الأخير رسالة فى موازين النقود المصرية...ولم ينله من الاهتمام سوى اسم شارع بوسط البلد و موقع أطلقه د. صبرى العدل فى حين عرفته أوروبا وكرمته. فهو من رسم الخريطة الفلكية للقطر المصرى و أعاد رسم مقياس أسوان.
الا يذكركم الفلكى بعبقرية مصر وإبداع أهل مصر؟ الا يذكركم بأن مصر مازالت فى حاجة لأكثر من فلكى وأكثر من عالم؟! الا يذكركم بقيمة الحياة فى بر مصر التى نتناساها فى موجات من التخبط ؟!
التعليقات