&فهمي هويدي

&ليبيا في الإعلام العربي غيرها على أرض الواقع، حتى يبدو وكأن الأول بلد مختلف عن الثاني.. هذه محاولة لقراءة الحالة الليبية من خارج الصورة النمطية.


(1)


هي في الإعلام ساحة يتمدد فيها الإرهاب ويتوحش بدرجة أصبحت تقلق الجيران وتهدد الأمن القومي المصري ولكن الجيش الوطني يحاول جاهداً وقف ذلك التمدد وإفشال مخططاته، إلا أن جهوده لا تزال قاصرة لأنه بحاجة إلى سلاح يؤدي به واجبه ويده مغلولة في ذلك بسب الحظر الدولي.


تلك هي الصورة النمطية الرائجة في وسائل الإعلام العربية، عالية الصوت التي تعبر عن عواصم الإقليم ذات الصلة بالوضع الليبي. أحدث ما وقعت عليه في هذا الصدد خبرا أبرزته جريدة الوطن المصرية على صفحتها الأولى (في 22/8) ذكر ما يلي: عقد تنظيم داعش اجتماعا في نهاية الأسبوع الماضي حضره ممثلون عن جهاز مخابرات أجنبي بإحدى المناطق الحدودية الليبية واشترك فيه 30 عنصرا من الجانبين.. واتفق الجانبان على وضع مخطط جديد للنيل من الأمن القومي المصري من خلال تحرك داعش تجاه الحدود مع مصر، وإقامة معسكرات تدريبية لإعداد عناصر مسلحة لخلق توترات على الحدود المصرية. وقد تعهد جهاز المخابرات (المشارك) بتوفير أحدث الأسلحة والمعدات والاتصالات اللازمة لتنفيذ عمليتها.


(2)


موقف الإعلام العربي عاكس لمواقف دوله الشريكة في الصراع الدائر على الأرض. إذ لم يعد سرا أن مصر والإمارات تساندان عملية الكرامة في الشرق، . كما بات معلوماً ورائجاً أن جماعة الكرامة المتمركزين في طبرق القريبة من الحدود المصرية يعتبرون خصومهم المتحصنين في طرابلس بأنهم إرهابيون. أما جماعة فجر ليبيا فإنهم يصنفون مجموعة الكرامة بأنهم يمثلون الثورة المضادة، التي تسعى لإجهاض ثورة فبراير التي أطاحت بالرئيس السابق معمر القذافي. وكل منهما يطعن في شرعية الآخر ويعتبر نفسه ممثلا للشعب الليبي. وهذه معلومات صحيحة لكنها منقوصة- إن شئت فقل إن تلك قراءة تختزل المشهد وتتعامل معه بتبسيط شديد ومخل لأنه مسكون بقدر هائل من التفاصيل التي منها ما يلي:
• إن تنظيم داعش لا يمثل خطراً على ليبيا وأبعد من ذلك بكثير أن يهدد أمن مصر كما يقول الصحفي الليبي هشام الشلوي. هو مشكلة في ليبيا صحيح لكن يصعب تصنيفه خطرا. إذ للتنظيم وجوده في درنة التي تبعد عن مقر البرلمان في طبرق مسافة 175 كم، مع ذلك فإن عناصر المقاومة الشعبية طردتهم من هناك خلال ساعات محدودة. وأصبح لهم وجود في بؤرة محدودة على بعد 40 كم منها. لهم بؤرة ثانية في بنغازي حيث انضم إليهم بعض أعضاء جماعة أنصار الشريعة، وهذه تبعد 1200 كم عن مقر السلطة في طرابلس، ولهم بؤرة ثالثة أو قاعدة في سرت التي تمددوا فيها مؤخراً، بعد اشتباكات بولغ في حجمها كثيرا في حين أن الذين قتلوا فيها لم يتجاوزا ثلاثين شخصا. لكن هذه المدينة التي كانت أثيرة لدى القذافي، تبعد مسافة 400 كم عن طرابلس. وهي خلفية تسوغ لنا أن نقول بان وجودهم الذي لا يتجاوز المئات لا يهدد معاقل السلطة.
• إن داعش لا تحارب وحدها، ولكنها مؤيدة من عناصر النظام السابق ومن قبيلة القذاذفة التي ينتمي إليها معمر القذافي. ولا ينسى في هذه الصورة أن أحمد قذاف الدم، منسق العلاقات الخارجية في عهده، امتدح داعش في حوار بثته إحدى القنوات الخاصة المصرية يوم 17 يناير الماضي، وقال إنهم لم يجدوا أحدا يدافع عن كرامة الأمة فلجأوا إلى الهروب إلى الله. ونشر كلامه صحيفة القدس العربي اللندنية الصادرة في 18 يناير تحت عنوان نسب إلى أحمد قذاف الدم قوله: أنا مع داعش وهم شباب أتقياء.
• إن ما يوصف بأنه الجيش الوطني الليبي له وجوده في وسائل الإعلام أكبر من وجوده على الأرض، ذلك أن القذافي كان قد ألغى الجيش وحوله إلى مجموعة من الكتائب التي وزعها على أولاده. والعنوان الذي يجري تسويقه الآن ينصرف إلى مجموعة من العسكريين الذين يلتفون حول اللواء خليفة حفتر لأسباب قبلية أو علاقات ومصالح خاصة، ومعهم بعض الميليشيات المحلية التي لها مصالحها المشروعة وغير المشروعة. وهؤلاء لم يحققوا إنجازا عسكريا يذكر على الأرض طوال 18 شهرا، لا في بنغازي التي هي في المنطقة الشرقية ولا في المنطقة الغربية. ولولا الدعم العسكري الخارجي والدعاية الإعلامية التي تقوم بها المنابر الموالية لهم لاندثر الجيش منذ شهور.
هناك اعتبار مهم يتعذر تجاهله في هذا السياق، وهو أن قيادة اللواء حفتر «للجيش» محل خلاف بين العسكريين. وقد ظهر هذا الخلاف على السطح بعدما قرر حفتر نقل مقر مدرسة الصاعقة التي تخرج القوات الخاصة من مكانها في بنغازي إلى مدينة المرج الواقعة في الشرق من بنغازي، التي تعد معقلا لمجموعة الكرامة لكي يضمن ولاء خريجيها له.


(3)


العامل الأكثر أهمية وحسما في المشهد أن الخريطة السياسية الليبية طرأ عليها تغيير بمضي الوقت. فلم تعد الصورة مقصورة على جبهة في الشرق على رأسها اللواء حفتر وخاضعة لنفوذ مجموعة الكرامة ومجلس النواب وحكومة عبد الله الثني، وأخرى في الغرب خاضعة لنفوذ فجر ليبيا والمؤتمر الوطني وحكومة خليفة الغويل. ذلك أن الحوارات التي تمت خلال الأشهر الأخيرة خصوصا الذي جرى في الصخيرات بالمغرب أفرزت وضعا جديدا غير من معالم الاستقطاب القائم. وعلى حد تعبير أحد وثيقي الصلة بالمشهد فإن التباين والانقسام إزاء الحلول السياسية أو الحسم العسكري شمل الجميع، بحيث لم يعد هناك مكون سياسي أو بلدي أو اجتماعي في الشرق والغرب إلا وانقسم أعضاؤه وتوزعوا على المعسكرين بين فريق أحدهما يؤيد الاتفاق السياسي ويحبذ الوفاق الوطني، ويعتبر أن ذلك هو المخرج الوحيد للأزمة، والثاني لا يحدد بديلاً عن الحسم العسكري لاستئصال الإرهاب في جانب وما اعتبر ثورة في الجانب الآخر.


في هذا الصدد ذكر الباحث الليبي إسماعيل القريتلي أنه في المنطقة الغربية اتضح تأثير حوار الصخيرات على خارطة التحالفات الجهوية والسياسية. فنشأ تيار يقوده أعيان ورجال أعمال وقادة سياسيون من مصراتة وكان محسوبا على النظام السابق في بداية الثورة ولكنهم شاركوا في دعمها بحيث أصبح لهم تأثير على تشكيلات عسكرية كبرى في المدينة. هذا التيار استطاع أن يعيد علاقة مصراتة مع المناطق التي تناهضها مجموعات في فجر ليبيا. فعقد ممثلوه مصالحات ولقاءات في ورشفانة والزنتان ومناطق أخرى في باطن الجبل. ودعم عديد من محاولات الصلح بين ورشفانة والزوالية ومناطق عدة في الجنوب الغربي. هذا التيار عارض التوقيع على مشروع الحل الذي قدمه المبعوث الدولي برناردينو ليون في مواجهة تيار آخر في المؤتمر الوطني أيده. وذلك لا يختلف كثيرا عن الحاصل في معسكر الكرامة المقابل، حيث الانقسام ظاهر في مجلس النواب بطبرق. وبالاطلاع على ما يدونه بعض أعضائه يتضح أن هناك إعادة تشكيل في تحالفاتهم فهناك انقسام داخل الكتلة المؤيدة لتحالف القوى الوطنية وخلاف واضح بين وفد الحوار (الذي شارك في مؤتمر الصخيرات) ولجنة المستشارين التي تم حلها من قبل رئيس مجلس النواب الذي أيد فكرة التوقيع على مشروع المبعوث الدولي.
على صعيد آخر فإن الفيدراليين في مجلس النواب (الذين يدعون إلى حكم ذاتي في برقة) يحاولون إعادة تنظيم صفوفهم، ويسعون لطرح رؤية يصل التصعيد إليها إلى حد تشكيل حكومة لإقليم برقه، وإعادة ترتيب موارده وقواته العسكرية والأمنية.


(4)


التباين الأخطر والأقوى تأثيرا حاصل في مواقف الخارج وليس الداخل. ذلك أن دول الإقليم المحيطة منقسمة بدورها بين طرف يدعو إلى الحل السياسي الذي تشترك فيه كل الأطراف تقوده قطر وتركيا ومعهما الجزائر والمغرب والسودان. ودول أخرى تنحاز إلى طرف واحد يتمثل في معسكر الكرامة الذي يقوده اللواء حفتر وتقوده مصر والإمارات، وكل طرف يستخدم أوراق الضغط الدبلوماسي وغير الدبلوماسي لتعزيز موقفه. فالأولون يعتبرون التوافق الوطني المتكافئ هو الحل والآخرون يشددون على أن مكافحة الإرهاب تمثل أولوية قصوى لديهم.
خبراء الشأن الليبي الذين تحدثت إليهم يلفتون النظر في هذا السياق إلى الملاحظات التالية:


• إن حالة التفكك الحاصلة في البلاد لم تمكن تنظيم داعش من التمدد على الأرض فحسب، ولكنها أتاحت الفرصة لأنصار النظام السابق لكي يرفعوا أصواتهم في عدة مناطق -طبرق وبنغازي في مقدمتها- مطالبين بإطلاق سراح نجل القذافي سيف الإسلام، وتمكينه من حكم ليبيا، كما طالبوا بإطلاق سراح رموز نظام القذافي الذين يحاكمون في غرب ليبيا بدعوى أنهم من الشخصيات الوطنية، ولم تقابل تلك الدعوات بأي اعتراض.


• إن الصراع السياسي يستأثر بالاهتمام الذي صرف الانتباه إلى العنف العرقي الحاصل في منطقة الكُفرة أو الخلاف الحاصل بين شيوخ قبائل المنطقة الشرقية حول مناطق نفوذها، أو الوقيعة بين الشرق والغرب والادعاء بأن بعض سكان الغرب من أصول تركية وليسوا مواطنين أصلاء.
• إن مشروع اللواء خليفة حفتر الأساسي يقوم على استبعاد الحل السياسي وتجميد المؤتمر الوطني. ورغم إعلانه في بداية عملية الكرامة (16 مايو 2014) أنها ليست انقلابا وأن الجيش لن يمارس السياسة، إلا أنه يسعى مع أنصاره الآن إلى تشكيل مجلس عسكري برئاسته لممارسة السلطة في ليبيا.
• إن التركيبة القبلية والعرقية توفر لليبيا وضعا شديد الخصوصية، يختلف عن أي وضع آخر في دول الجوار. وينبه هؤلاء إلى صعوبة استنساخ النموذج المصري الذي يحاول البعض اقتباسه ونقل صيغته وصراعاته إلى الساحة الليبية.


• أخيراً يذكر أولئك الخبراء بأن الثورة الليبية التي انطلقت في شهر فبراير عام 2011 تمثل أحد تجليات الربيع العربي ومحاولات خنقها أو إجهاضها ليست بعيدة تماماً عن مشروع تصفية الربيع العربي وإزالة آثاره الذي حقق نجاحات مشهودة في دول عربية أخرى.