إياد أبو شقرا

يترقّب كثيرون اللقاء المزمع عقده بين الرئيسين الروسي والأميركي فلاديمير بوتين وباراك أوباما في نيويورك على هامش الذكرى السنوية السبعين لتأسيس منظمة الأمم المتحدة، فالملفات كثيرة والأزمات كبيرة والمعاناة الناجمة عن تداعياتها أكبر وأخطر.


المنظمة الدولية نفسها باتت في حاجة إلى تجديد شبابها، بعدما فقدت آلياتها القدرة على معالجة حالات الانسداد الدولي التي تسهم فيها سياسات المناكفة والتعطيل وتجاوز «الشرعية الدولية» التي يمارسها بعض الأعضاء الدائمين الكبار المتمتعين بحق النقض «الفيتو»، مع العلم أن الأمم المتحدة نفسها يفترض بها تجسيد هذه «الشرعية الدولية»، ومن ثم العمل على ترسيخها.


أمام لقاء بوتين - أوباما عدد من القضايا الشائكة، لكن الأزمة السورية تظل القضية الأولى، التي أنتجت عدة قضايا معقدة وملحّة منها تشجيع «قيصر الكرملين» على ضم القرم ثم التدخل في شرق أوكرانيا بعدما لمس أن نظيره في واشنطن ليس في وارد ردعه أو منعه. أيضًا من نتائج الأزمة السورية محنة ملايين اللاجئين والنازحين السوريين، ومن هؤلاء أكثر من مائة ألف حملهم اليأس إلى ركوب البحر نحو المجهول باتجاه قلب أوروبا القاسي.


الأزمة السورية، كما أثبتت الأيام، مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالصفقة الأميركية – الإيرانية، و«الظهور المفاجئ» للظاهرة الداعشية، ومشروع «الشرق الأوسط الجديد» بكل أفخاخه العرقية والدينية والطائفية، مع أن من يرصد تصرفات واشنطن إزاءها يحتار بين إدراج هذه التصرفات في خانة البلاهة المفرطة أم خانة التآمر الخبيث.


عبر تاريخ الأمم المتحدة كانت الأمور تنزلق إما نحو الحروب أو الكوارث الإنسانية عندما ينعدم عنصر الردع بين «الكبار». بل إن المنظمة الدولية أبصرت النور بعد الحرب العالمية الثانية التي اندلعت بسبب انعدام الردع، وغدت «ورقة التفاهم» التي لوّح بها رئيس الوزراء البريطاني نيفيل تشمبرلين بعد عودته من الاجتماع بالزعيم النازي الألماني أدولف هتلر رمزًا بليغًا لعبثية حُسن الظن بالطغاة ومجانين العظمة وأصحاب المشاريع الشمولية والآيديولوجيات العنصرية الإمبريالية. يومذاك كانت سياسة الاسترضاء APPEASEMENT الغربية إزاء العسكرة MILITARISM الألمانية والإيطالية واليابانية الوصفة السحرية للحرب. وبالنتيجة، قبل 70 سنة، اتفق العالم على إنشاء نظام عالمي جديد تمثل بمؤسسة بديلة لـ«عصبة الأمم» التي قضت عليها الحرب الثانية (1939 - 1945).


بعدها حفظ الردع المتبادل بين الشرق والغرب العالم – لعدة عقود – من مواجهات مدمّرة يدخل فيها السلاح النووي والصواريخ العابرة للقارات، وظهرت سياسات الاحتواء والحروب الإقليمية المحدودة. ومثلما تمكن الرئيس الأميركي جون كنيدي من ردع الاتحاد السوفياتي في أزمة الصواريخ الكوبية، نجح العالم الشيوعي عبر اعتماد «حرب التحرير الشعبية» في تحقيق انتصار استراتيجي مهم في الهند الصينية (فيتنام ولاوس وكمبوديا)، لكن توازن الرعب والردع اختل مرتين لاحقًا.


المرة الأولى في أواخر عقد السبعينات، عندما تردّد الرئيس الأميركي جيمي كارتر في التعامل بأسلوب حازم ورادع مع الزعيم الإيراني آية الله الخميني، فعزّز الراديكالية الإسلامية والمسيحية على حد سواء؛ إذ حفّزت شعارات «الثورة الخمينية» و«تصدير الثورة» الشيعية ردّات فعل قلقة في العالم الإسلامي السنّي، وأثارت في الغرب – وبالذات في أميركا – عبر عمليات خطف الرهائن ردّة فعل غاضبة ومحافظة جدًا حملت رونالد ريغان أكثر قادة الحزب الجمهوري يمينية وتشددًا إلى الفوز على كارتر بغالبية ساحقة واحتلاله البيت الأبيض لمدة ثماني سنوات غيّرت معها سياساته الهجومية وجه العالم.


والمرة الثانية بعد بضع سنوات، عندما أدى الزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف دور تشمبرلين فحاول استرضاء ريغان، الذي كان قد وصف الاتحاد السوفياتي عام 1983 بـ«إمبراطورية الشر»، فكانت النتيجة كارثية على الكيان السوفياتي، فانهار وانهارت معه منظومته السياسية والأمنية، وبدأ عصر «الأحادية» القطبية في ظل بيارق الأحزاب الدينية والقومية المتطرّفة.. التي كانت المستفيد الأكبر من سقوط خيار اليسار.
اليوم يرى كثيرون، عن صواب أو خطأ، أن أوباما يمثل امتدادًا لسذاجة تشمبرلين و«طوباوية» كارتر وغباء غورباتشوف، بينما يمثل بوتين دور عدوانية هتلر والخميني وريغان.. وإلى حد ما حزم كنيدي.


فبوتين، مسؤول «الكي جي بي» السابق، رجل عملي وصارم يعرف تمامًا ما يريد ويجيد استكشاف نقاط ضعف الخصم ولا يترد في استغلالها. وهو اليوم يدرك أنه يتمتع بفرصة نادرة لابتزاز رئيس أميركي متعالٍ يفتقر إلى صدق المشاعر، اختار أن «يضع كل بيضه في سلة» تفاهم استراتيجي مع قوة إقليمية آيديولوجية (بل ثيوقراطية) مسلحة وعدوانية يراه من مصلحة أميركا على المدى البعيد. وهو يفعل ذلك اليوم من دون اكتراث بما يمكن أن ينتج عنه من تداعيات أمنية وجيو – سياسية وأزمات إنسانية في المستقبل المنظور.


وبالتالي، ما يفعله بوتين اليوم على أرض سوريا نتيجة منطقية تمامًا لما فعله – أو بالأصح، لم يفعله – أوباما لسوريا والسوريين منذ أربع سنوات: «خطوط حمراء» تنزل بردًا وسلامًا على آلة بشار الأسد لقتل السوريين. ووعود عرقوبية بتسليح المعارضة تتبخّر خلال ساعات من قطعها. ورفض عنيد ومتكرّر لمطالب الملاذات الآمنة التي هي السبيل الوحيدة لإنقاذ السوريين وتشجيع مقهوري جيش النظام وأمنييه على الانشقاق. وصمت يصمّ الآذان عن التدخل الإيراني العلني في القتال ثم في التبادل السكاني لتسريع مخطط التقسيم والتقاسم. وأخيرًا، ها هو النزول الروسي الفعلي على الأرض بعدما فقد النظام القدرة على فرض السيطرة حيث يشاء، على الرغم من الدعم الإيراني و«جسر التسليح» الجوي الروسي.


عودة إلى لقاء نيويورك، أحسب أنه من العبث تخيّل أي «سيناريو» يحمل تغيرًا جديًا في الموقف الأميركي من الأزمة السورية، واستطرادًا من الوضعين في العراق ولبنان، وبخاصة بعد تبني واشنطن العلني وشبه المطلق المقاربة الروسية لأولوية «مكافحة الإرهاب» الداعشي.


أما «أصدقاء سوريا» الذين يتسابقون الآن على إسقاط شرط الأسد كونه مقدّمة لأي تسوية سياسية على مستوى المنطقة، فأرجو ألا يكتشفوا متأخرين جدًا أن بقاءه والتواطؤ مع داعميه الإقليميين هما أكبر ضمانتين لتوالد اليأس والحقد والتطرف.