عادل درويش
في عام 1975 نظر مجلس الفنون البريطاني British Arts Council في طلبي لدعم مشروع عرض مسرحيات مترجمة من العربية إلى الإنجليزية، مرفق بنماذج نصوص مسرحية لستة مؤلفين مصريين، فمنح المجلس أولوية الدعم لمسرحيات علي سالم..
«.. إنها كوميديا راقية عالمية في كلاسيكيتها، والفكاهة فيها عفوية وغير مبتذلة، كما أن التركيبة الدرامية واستخدام القصة التوراتية [يقصدون قصة سيدنا يوسف وتفسير حلم فرعون] في كوميديا معاصرة لإدارة الأزمات تبدو درسًا مفيدًا في فن الدراما.. أعمال المستر سالم تشع منها روح أصالة بلاده العريقة في بساطة تجعلها مستساغة لكل الثقافات، حيث تقدم الشخصية المصرية التي نوصي بأن نعرضها للأجيال الحديثة في بريطانيا». مقطع من حيثيات تقديم الدعم لاختيار مسرحيات علي سالم، ليشاهدها التلاميذ الإنجليز. وفي 1977 خصصت إدارة التعليم ميزانية جديدة لتقديم مسرحيتي علي سالم «البوفيه»، و«بير القمح» (كتبهما في الستينات) في جولة للمدارس الثانوية..
بدأت صداقتي بعلي سالم (1936 - 2015) عام 1963 وكان بدأ تجاربه المسرحية وأولها «ولا العفاريت الزرق». لقاؤنا الأول استمر من الغداء إلى فجر اليوم التالي متنقلين بين المقاهي، وسميته «المصري الفصيح».
نقده اللحظي الساخر للسلبيات وتسلط أجهزة الدولة، وفساد البيروقراطية بروح عمرها أربعة آلاف سنة، وكأن كلماته تقفز من بردية «الفلاح الفصيح» من الأدب المصري القديم، عن فلاح يخاطب بخفة دم مفتشًا أرسله فرعون، ليكشف فساد حاكم الإقليم ونهبه محصول الفلاحين.
لنصف قرن عرفته وعباراته الساخرة تتنقل كمونتاج سريع التقطيع من الأساطير الإغريقية إلى أنغام نداء بائع العرقسوس، ومن حكايات كليلة ودمنة إلى أغنية لأم كلثوم ومن أقوال فولتير إلى مغالطة الجرسون اليوناني في الحساب.
أثناء إقامة بضعة أشهر في لندن راقب الحياة اليومية للمصريين بعين عليسالمية طحنت حبوب التجربة دقيقًا عجنه قلمه في مسرحيتي «أولادنا في لندن»، و«الكلاب وصلت المطار».
فلاش باك أربعين عامًا قبل أن نعرف الموبايل والإنترنت وصياحي في مكالمة لإقناع علي سالم ببضعة تعديلات في «البوفيه» من ترجمة حرفية لتصبح ترجمة معادلة لمفهوم النص conceptual translation وتعليقه «الله هو انتو عندكو رقابة...؟!». نموذج لعبقرية سالم، بتعمقه في الأصالة المصرية ليفسر أي موقف بنقطة معرفة قياس هي التجربة المصرية.
الفن كالشجرة، كلما تعمقت جذورها في التربة المحلية امتدت فروعها بعيدا. فالعمق المصري لكوميديا علي سالم (كل مسرحياته باللغة المصرية التي يتحدثها الناس في الشارع وليس بالعربية الفصحى) وخصوصيتها المصرية أعطتها جاذبية عالمية عندما قدمت بالإنجليزية والفرنسية والعبرية، وضحك لها الجمهور وكأنها كتبت أصلا بهذه اللغات.
بعد إخراجي في مطلع السبعينات لمسرح جامعة لندن «جواز على ورقة طلاق»، و«الفخ» للراحل ألفريد فرج، و«الغرباء لا يشربون القهوة»، و«الرجال لهم رؤوس» لمحمود دياب، ترجمة زميل الدراسة في الستينات كين ويتنغهام، طرقنا أبواب المؤسسات والسفارات العربية لدعم تقديم مسرحيات مترجمة للإنجليزية للجمهور الكبير في عاصمة المسرح العالمي دون جدوى (... الاستثناء الوحيد كان منحة بسيطة من السفارة المصرية عام 1976 لدفع أجور وتكاليف مسرحية دياب لعرضها في المركز الأفريقي. واستضافة المركز الثقافي العراقي عروض «الغرباء لا يشربون القهوة» عام 1976 بتقديم النجمة العالمية فانيسا ريدغريف) لكن مجلس الفنون البريطاني استوعب قيمة أصالة الفكاهة المصرية فدعم تقديمها لجمهوره.
تزامنت عروض «بير القمح» لعلي سالم في بريطانيا (1977 - 1979) مع مجاعات في أفريقيا، فأثارت مقارنات تاريخية. جرسون في المتحف المصري يفك رموز بردية هيروغليفية مصرًّا أن صومعة واحدة من القمح الذي خزنه نبي الله يوسف استهلكت في السنوات العجاف ولا تزال ست صوامع باقية بملايين الأطنان من القمح (كان استيللو الجرسون اليوناني السكندري قضى حياته في محاولة اكتشاف قبر الإسكندر الأكبر). ومن منا لا يعرف بالبرديات وحكاية تخزين النبي يوسف للقمح في صوامع فرعون التي ذكرتها الديانات الإبراهيمية الثلاث؟
مزجت كوميديا علي سالم الساخرة بين التاريخ والأساطير والواقع المعاصر ومداعبة الجمهور فالممثلون يركبون حفارة بترول لكنهم يستخرجون قمحًا فتستولي الدولة على المشروع وتهدر الإمكانيات في تأسيس بيروقراطية ضخمة تنشغل بإدارة نفسها بدلاً من نقل القمح للمطاحن.
عرضنا البوفيه باسم Caramba، فالمسرحية، التي شبهها النقاد الإنجليز بأشهر أعمال كافكا «المحاكمة» تحولت إلى كوميديا سوداء. فمدير مسرح الدولة يبدأ اعتراضه على كلمة سباب في نص مؤلف شاب، وبينما يستعرض المدير معرفته الانسكلوبيدية بالثقافة وتاريخ المسرح العالمي تتحول المقابلة إلى استجواب استخباراتي وتعذيب ذهني للمؤلف المثالي في مبادئه فيقدم سيلاً من التنازلات بما فيها اسم المسرحية التي كانت عن نضال العمال لتصبح يومًا في ملهى يقدم رقصات إسبانية بصيحة «كارمبا»..
المسرحية التي أصبحت حديث لندن، وعرضت في جولات لأكثر من عامين كانت تلخيصًا رمزيًا لحال مثقفي مصر في عقدين من حكم أوتوقراطي كان يبني المسارح وقصور الثقافة ويدعم الفنون بسخاء، وفي الوقت نفسه يضيق على حرية الإبداع ويقدم الطوق الذهبي ليضعه المثقفون بأنفسهم حول موهبتهم، وكرر سالم الفكرة في مسرحيات تالية «كعفاريت مصر الجديدة»، و«الكاتب والشحات».
غاص سالم في كوميديا سوداء تسخر من الأشياء المسكوت عنها كغياب الديمقراطية وتسلط الحاكم، مثلما يقول الأستاذ يسري حسين مؤرخ الأدب والفنون المعاصرة، مبرزًا مفارقة تاريخية عندما مر سالم بتجربة مشابهة لبطل «البوفيه». اعترضت الرقابة على المصنفات الفنية لا على مضمون أو شخصيات المسرحية، بل على عنوانها «الرجل اللى ضحك على الملايكة»، وأجبروه على تغيير العنوان إلى «الرجل اللي ضحك على الأبالسة».
«أغنية على الممر»، مجموعة صغيرة (من مختلف طبقات المجتمع) تقاتل حتى الموت لتحمي انسحاب الجيش من سيناء. حوار الشخصيات تشريح لجثة الهزيمة، ولا فرصة لعرض الأسباب على المجتمع لأنها تموت مع آخر الجنود الصامدين.
يعود علي سالم بعد أربع سنوات ليجسد مأساة 1967 في تحديث رمزي معاصر لمسرحية أوديب الإغريقية بالسخرية المصرية «انت إلى قتلت الوحش» عندما سدت جماهير «بالروح والدم..» آذانها وأغمضت عينيها عن الحقيقة واستمرت في ترديد نغمة الإعلام الرسمي (المسرحية قدمت بالإنجليزية في جامعة أوتا الأميركية عام 2010).
رحم الله الصديق الفنان المبدع المصري الفصيح علي سالم.
التعليقات