&محمد طيفوري من مراكش

يخطئ المثقف هدفه الأساسي، يقول إيمانويل تود (Emmanuel Todd)، إذا استكان إلى خطاب العامة، ووافق الجمهور في كل ما يذهب إليه صونا للإجماع الوطني، كلمات بليغة تلك التي صدح بها واحد من مفكري فرنسا المثيرين للجدل في الساحة الفكرية الفرنسية والعالمية اليوم، بعد أحداث مجلة "شارل إيبدو" مطلع هذه السنة.

إيمانويل تود اقتصادي وعالم إحصائيات ومختص ديموغرافي وباحث أنثروبولوجي فرنسي، مثقف عضوي - بتعبير غرامشي - ممن دخل معترك الحياة السياسية الفرنسية على شاكلة من سبقوه من طينة بيير بوردو ومشيال فوكو وألبير كامي وجيل دولوز ... وآخرين ممن كرسوا في التاريخ الفرنسي المعاصر مفهوم المثقف الفرنسي الذي يعانق تحولات عصره، ويعيش هموم بلده ومشاكل مجتمعه.

تجاوزت آراء وتقديرات الرجل حدود بلده الأم فرنسا مشارق الأرض ومغاربها (روسيا وأمريكا)، ففي عز أجواء الحرب الباردة، وتحديدا زمن ليونيد بريجنيف (1964-1982)، توقع الباحث انهيار الاتحاد السوفياتي في كتابه "السقطة النهائية" (1976)، في وقت ساد فيه شبه إجماع في أوساط الباحثين والأكاديميين على متانة القوة السوفياتية اقتصاديا وعسكريا.

على المنوال ذاته، وفي عام 2002 قدم وصفا دقيقا لتآكل الدور الاقتصادي للولايات المتحدة الأمريكية، وتوقع الأزمة الاقتصادية العالمية في كتابه "ما بعد الإمبراطورية" (2002)، إذ سجل فيه النمو المبالغ فيه للخدمات المالية والتأمينات في الاقتصاد الأمريكي على حساب الصناعة. وهو ما تحقق عمليا باندلاع الأزمة المالية العالمية بعد إفلاس مصرف "ليمان براذرز" (Lehman Brothers Holdings) في سبتمبر 2008.

ربيع العرب كذلك لم يفلت من توقعات هذا المفكر الفذ، حيث قام بمعية زميله يوسف كرباج (Youssef Courbage)، واعتمادا على قواعد الحساب الإحصائي الممزوجة بمعطيات الواقع الديموغرافي، بتحليل الأسباب التي تؤدي إلى ثورة أو تغيير اجتماعي حتمي؛ إما بفعل هزة قوية أو عبر تطور تدريجي.

نبوءات يصفها إيمانويل تود في أحد حواراته بعمل الجيولوجيين الذين يراكمون مؤشرات تدل على احتمال هزة أرضية قريبة أو انفجار بركاني وشيك. أما عن التاريخ الدقيق لانفجار البركان، وشكله وعنفه، فتلك أمور يتعذر تقديرها مسبقا بدقة مسقطا عن نفسه وزميله وعن أبحاثهما صفة "العراف".

عودا إلى واقعة "شارل إيبدو"، التي ذكرناها في البدء، بأجوائها المحتقنة في الداخل الفرنسي التي كانت مناسبة للرجل كي يوجه صفعة قوية للرأي العام، ومعه النخب السياسية والفكرية الفرنسية، مسقطا ركام الأقنعة التي تقدم من خلالها فرنسا؛ بلاد الحرية والمساواة، نفسها للأوروبيين وللعالم. لم يتردد تود في التعبير صراحة عن عدم رضاه بانتمائه لفرنسا بقوله: "لأول مرة في حياته ليس فخورا بكوني فرنسيا".

تلك الصفعة جاءت في شكل كتاب بعنوان صادم: "من يكون شارلي؟ سوسيولوجيا الأزمة الدينية" (Qui est Charlie? Sociologie d’une crise religieuse)، يقدم فيه الكاتب دلالات المسكوت عنها رسميا، أو ما قدم على أنه إجماع فرنسي بعد أحداث شارلي؛ أي مظاهرات 11 يناير تحت شعار "أنا شارلي" (Je suis Charlie).

يجيب تود عن سؤال من هو شارلي في تلك المظاهرات؟ بالقول أنه شخص ينتمي عائليا إلى الفئات الدينية التقليدية التي ناهضت تاريخيا الثورة الفرنسية، وقاومت فكرة اللائكية كمساواة بين الطوائف الدينية داخل المجتمع الفرنسي، وهو شخص محظوظ اقتصاديا ينتمي إلى الفئات المهيمنة، ويحمل في لاوعيه مستوى معتبرا من العنصرية وكره المسلمين.

أزمة اجتماعية داخل المجتمع الفرنسي عبر عنها تود بشكل صريح وبلغة حادة في كتابه إذ يقول: "إن التركيز على الإسلام يعكس في الحقيقة وجود حاجة مرضية في أوساط الطبقات المتوسطة والعليا لتوجيه سهام الكره في اتجاه ما، وليس فقط خوفا من تهديد الطبقات الفقيرة. إن كره الأجانب الذي كان حكرا في الماضي على الشرائح الشعبية صار الآن شعار النخبة والطبقات الميسورة التي تبحث عن كبش فداء من خلال الإسلام".

وبحسب هذا المفكر، فالإجماع مجرد كذبة كبرى تخفي وراءها أيديولوجية إقصائية عنيفة. وفي الآن ذات آخر أوراق النخبة السياسية الحاكمة للتغطية على نفاقها، حيث حشدت الجماهير لدفاع عن مبادئ الجمهورية الفرنسية في حين خانتها هي منذ عقود. ويتساءل الرجل، بشكل استنكاري، في إحدى صفحات كتابه: "بأي حق تنادي الحشود بحرية تشويه النبي محمد في رسوم كاريكاتورية، وأي منطق هذا الذي صار يجعل من تشويه صورة الإسلام والمسلمين حرية تعبير؟". إنها وبكل بساطة، "أوليغارشية الحشود" كما يسميها التي تستعرض عضلاتها على أقلية من المسلمين والعرب، وتصر على تحميلهم مسؤولية الأزمات التي تعصف بالمجتمع الفرنسي على كل المستويات خلف قناع "كلنا شارلي".

في سياق آخر، وارتباطا دائما بمواقف الرجل "المتفردة"، فاجأ تود كثيرا من الأوروبيين حين أخرج ألمانيا من دائرة الغرب ردا على سؤال "ما حدود الغرب؟". إذ قال: "الواقع أن بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، حسب هذا التسلسل التاريخي، هي التي تمثل جوهر الغرب، ولكن ليس ألمانيا". ففي نظره ألمانيا لم تسهم بشيء في الحركة الديمقراطية الليبرالية في أوروبا، بل أنتجت أسوأ أيديولوجيتين استبداديتين في القرن العشرين؛ وهما الماركسية والنازية.

وهنا وجب التنبيه فقط إلى أن تود يقصد بالأساس مساهمة التجربة السياسية الألمانية في تطور الفكرة الديمقراطية بأوروبا، أما في مستوى التنظير الفكري فألمانيا أنجبت أسماء ثقيلة في تاريخ الفكر الديمقراطي مثل "كانط" و"هيجل"... وغيرهما ممن كانوا مشاعل الليبرالية السياسية في التاريخ الثقافي الأوروبي الحديث.

ويتسمر تود في تأكيده على الاستثناء الألماني في سياق التجربة الغربية، إذ لا يزال الألمان في نظره مسكونين بخوف سري، أو ربما خوف نرجسي حسب تعبيره، وكأنهم يشعرون باللاانتماء الكلي إلى الغرب. فنظام الحكم المفضل لديهم هو الائتلافات الكبيرة، وليس الانتقال المفاجئ للسلطة كما عليه واقع الحال في فرنسا وفي البلدان الأنجلو ساكسونية.

يرى تود أن ألمانيا ربما كانت تفضل أن تكون على غرار سويسرا كبيرة أو سويد كبير، أي ديمقراطية اجتماعية. ففرنسا فردية النزعة وشغوفة بالمساواة، أو على الأقل أنها كذلك أكثر من ألمانيا، حيث لا يزال لتراث العائلة العشائرية السلطوية والبعيدة عن المساواة وقعه حتى في يومنا.

بقي أن نشير إلى أن إيمانويل تود واحد من رجالات علم الديموغرافيا الذين يشار إليهم بالبنان في العالم، وله أعمال مميزة عن الديموغرافيا في العالمين العربي والإسلامي. يعمد الرجل في أبحاثه إلى المزج بين وقائع التاريخ ومعطيات التحولات الديموغرافية، فيحدد "المناطق المعرضة للمخاطر" (البلدان) التي تجمع بين التحديث الثقافي وانهيار هياكل السلطة العائلية التقليدية والاضطرابات السياسية ذات محتويات فكرية متنوعة.